لا يختلف إثنان على أن سنة 2012 المنقضية كانت سنة كارثية بكل ما للكلمة من معنى على القضاء التونسي، تلك quot;المؤسسةquot; التي لم تعرف الإستقلالية طيلة تاريخها وكانت باستمرار خاضعة خانعة للسلطة التنفيذية بحكم دستور 1959 المقبور. فهذا الدستور الذي أسس للجمهورية التونسية - المستقلة حديثا والتي تخلت عن الملكية لصالح النظام الجمهوري بعد أن طاح المجلس القومي التأسيسي بآخر ملوك تونس محمد الأمين باي - جعل من رئيس الجمهورية رئيسا للمجلس الأعلى للقضاء، مسؤولا عن النقل والترقيات والتأديب المتعلق بالقضاة، ما جعله مهابا، يخشى السواد الأعظم سطوته وبأسه ولا يجرؤ quot;أصحاب الروب الأسودquot; من القضاءين quot;الجالسquot; وquot;الواقفquot; (النيابة العمومية) ولا حتى quot;قلم التحقيقquot; على عصيان ما يفرضه من إملاءات.

ورغم الأمل الذي بعثته ثورة 17 ديسمبر في نفوس التونسيين الذين علقوا آمالا كبيرة على إصلاحات جذرية تطال جميع quot;القطاعاتquot; بما في ذلك المؤسسة القضائية، فإن دار لقمان بقيت على حالها، أو لعل حالها زاد سوء عما كان سائدا في حقبة الإستبداد. فالصلاحيات التي كانت منوطة دستوريا في السابق بعهدة رئيس الجمهورية تحولت إلى وزير العدل لكن دون تفويض دستوري. فأصبح السيد الوزير الحاكم بأمره خصوصا بعد أن تم تسليط سيف quot;الإعفاءquot; (آلية يقوم بمقتضاها وزير العدل بعزل كل قاض يشتبه في ضلوعه في الفساد مع النظام السابق) على القضاة quot;المشتبه فيهمquot; دون المرور على الهيئات القضائية المختصة التي يبقى لها وحدها حق تتبع هؤلاء باعتبارهم مواطنين تونسيين قبل أن يمتهنوا القضاء.
لقد حرمت آلية الإعفاء تلك، القضاة من محاكمات عادلة يصان فيها حقهم المقدس في الدفاع، وحرمت أيضا التونسيين من فتح الملفات وكشف الحقائق للرأي العام. وهو ما جعل عديد الأصوات تحذر من انعكاس ذلك سلبا على استقلالية القضاء، باعتباره يساهم في خلق مناخ متعفن يسيطر فيه الخوف على القاضي خشية من إعفائه واتهامه بالفساد دون محاكمة ودون أدلة لمجرد إصداره لأحكام مخالفة لإرادة الفريق الحاكم. خاصة وأن في سلوك أنصار الفريق الحاكم مع معارضيهم ما يبرر هذه الخشية. حيث بات يتهم كل من يعارض حركة النهضة بأنه من الأزلام (الفلول) رغم أن الحكومة المشكلة بالأساس من حزب النهضة تضم في صفوفها منتمين للمنظومة السابقة.
ويتهم المجلس التأسيسي الذي تسيطر عليه الترويكا (الأحزاب الثلاثة التي تشكل الحكومة التونسية) بالتسبب في هذا الوضع الكارثي الذي يمر به القضاء التونسي. وذلك نظرا لتلكئ هذه السلطة التأسيسية الأصلية والشرعية في البلاد، في إصدار القانون المتعلق بالهيئة الوقتية quot;المستقلةquot; المشرفة على القضاء والتي رغب نواب حركة النهضة في حذف كلمة quot;مستقلةquot; من تسميتها الرسمية بمبررات ساقوها أثناء المداولات لم تقنع الكثيرين.
ويحمل البعض أيضا المسؤولية للقضاة التونسيين أنفسهم حيث أنهم (وبخلاف المحامين الذين تجمعهم هيئة وطنية واحدة مستقلة قدمت تصورها لإصلاح القطاع مبكرا وأياما معدودات بعد الإطاحة ببن علي) منقسمون إلى نقابة، يتهمها البعض بالتماهي مع السلطة، وجمعية في خلاف حاد مع الفريق الحاكم، تم استثناؤها مؤخرا من التكريم الذي حظيت به جمعيات ومنظمات من قبل رئاسة الجمهورية يوم 10 ديسمبر الماضي ذكرى صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وذلك رغم التاريخ النضالي لتركيبتها الحالية برئاسة القاضية كلثوم كنو. وقد قدمت كل من جمعية القضاة ونقابتهم مشروعين مختلفين لإصلاح القضاء، مثلا الذريعة لتباطئ المجلس التأسيسي في إصدار قانون يكرس استقلالية هذه السلطة.
ونتيجة لجميع هذه المعطيات فقد تم تسجيل عديد التجاوزات في تونس جعلت رجال القانون والحقوقيين يفقدون ثقتهم في قضاء ما بعد الثورة، وتخبو لديهم جذوة الحماس التي كانت سائدة خلال الأشهر الأولى التي تلت فرار بن علي، وجعلت الأمل في رؤية قضاء مستقل يحقق العدل المنشود في أرجاء الخضراء يتضاءل، وسقف الطموحات الذي ارتفع حتى طاول السماء ينزل إلى الحضيض حتى كاد يلامس باطن الأرض. وما يزيد الطين بلة هو التبريرات المتواصلة التي يسوقها أنصار الفريق الحاكم لتجاوزات كبار مسؤوليهم وهو ما يبعث على الحيرة والأسى لأن الأمر بات مجرد عناد ومكابرة وانتهاج لسياسة الهروب إلى الأمام.
لكن ورغم السنوات العجاف السابقة في تاريخ القضاء التونسي، ورغم هنات ومآسي قضاء ما بعد الثورة الذي شهدته السنة المنقضية. يبقى الأمل قائما في أن تشهد سنة 2013 انطلاقة حقيقية للقضاء التونسي أساسها إصلاحات جذرية قائمة على فصل حقيقي بين السلط تعهد فيه مهمة تسيير هذا المرفق العام إلى هيئة مستقلة منتخبة بالكامل من عموم القضاة لا مجال فيها للتعيين لأي من أعضائها، كما يجب أن يشمل هذا الأمر القضاة الإداريين الخاضعين للسلطة التنفيذية بالكامل ممثلة سابقا في الوزير الأول، وخلال هذه المرحلة الإنتقالية في رئيس الحكومة، ويجب الحرص على تنفيذ قرارات هذه المحكمة التي أرادها النظام السابق واجهة لتلميع صورته تلغي مقررات إدارية لكن أحكامها غير قابلة للتنفيذ. فالقضاء المستقل (الذي ينشد تحقيقه التونسيون) والإعلام الحر (الذي بات واقعا في تونس وأحد أهم مكاسب الثورة) هما ركيزتا البناء الديمقراطي.