يعتبر البناء المغاربي بالنسبة للتونسيين وكذا باقي شعوب المغرب الكبير مسألة حيوية وخيارا استراتيجيا يتفق حوله الجميع ولا يجد معارضة حتى من بعض العنصريين دعاة طرد العرب وقرآنهم ولغتهم من بلاد المغرب ممن ينسبون أنفسهم إلى الأمازيغ والذين ينشطون بكثافة في المملكة المغربية حيث يمثل الأمازيغ أغلبية السكان بخلاف تونس وإلى حد ما الجزائر.
لقد أدركت الشعوب المغاربية التي عاشت وحدتها على مدى قرون أنها غير ذات وزن معتبر في علاقتها مع بلدان الحوض الشمالي للمتوسط من الجيران الأوروبيين إذا بقيت منفردة لا يجمعها تكتل إقليمي يجعل كلمتها مسموعة حتى على المستوى العربي حيث تهمش هذه الدول ولا يؤخذ برأيها في القرارات المصيرية التي تتخذ داخل الجامعة العربية التي تهيمن عليها دولتان أو ثلاث تتصرف بإسم المجموعة أوصلت العرب إلى وضع كارثي نعاني من ويلاته إلى يوم الناس هذا.
الرئيس التونسي حديث العهد بكرسي السلطة المنصف المرزوقي أراد تحريك اتحاد المغرب العربي الراكد منذ سنوات تحركه نوازع شخصية كعادته باعتبار الروابط التي تجمعه بالمغرب حيث قضى سنوات من عمره في طنجة بين أحضان أشقائه الذين عرف عنهم حسن الضيافة دون مجاملة أو رمي ورود. وسعى إلى عقد قمة مغاربية اتفق على أن تكون في تونس وتم تأجيل موعدها وأعلن بحماسه المعهود الذي لا يقدر العواقب في أغلب الأحيان عن عزم بلاده لعب دور الوساطة بين الجزائر والمغرب لحل خلافهما ما جعله عرضة لانتقادات جزائرية كان يمكن تلافيها مراعاة لعلاقات الأخوة وحسن الجوار مع الجانب التونسي الذي لم يكن راضيا بالضرورة على الحماس المبالغ فيه لرئيسه الذي سيكبح جماح اندفاعه مع الوقت.
ومن بين ما دعا إليه المرزوقي أيضا بعيد جولته المغاربية، ترك الخلافات quot;البينيةquot; الجزائرية المغربية جانبا ومن ذلك قضية الصحراء، والإنطلاق فورا في بناء الإتحاد. واعتقد السيد الرئيس أنه وجد الحل وأننا بصدد الوصفة السحرية لبنيان عجزت عنه جحافل جيل محاربة الإستعمار من المناضلين في شتى البلاد المغاربية على غرار عبد العزيز الثعالبي والحبيب بورقيبة ومصالي الحاج وهواري بومدين والأمير عبد الكريم الخطابي والمهدي بن بركة وغيرهم.
لقد فات السيد المرزوقي أن الزعماء المغاربة الذين التقوا في مراكش ذات شتاء من سنة 1989 وأعلنوا عن قيام اتحاد المغرب العربي قد سبقوه إلى ذات quot;الحل السحريquot; وهو ترك الخلافات الثنائية جانبا وعدم إدراج قضية الصحراء ضمن جدول أعمال الإتحاد وتحييدها تماما عن البناء المغاربي ولكنهم انتهوا إلى فشل ذريع. وهاهو اليوم يكرر ذات الخطأ ويضيع الوقت والجهد لاهثا وراء سراب أرهق الأجيال المتعاقبة من السياسيين المغاربة.
إن قضية الصحراء هي قضية مصيرية بالنسبة لكل من المغرب والجزائر - بقطع النظر عمن هو صاحب الحق وبقطع النظر عمن ورث حدودا مترامية الأطراف من الإستعمار على حساب جيرانه ولا زالت أطماعه راغبة في المزيد - ورغم تفويضها إلى الأمم المتحدة فإنها بقيت عصية عن الحل، ولن تحل على المدى القريب أو حتى المتوسط وفقا لعديد الخبراء ومراكز دراسات استراتيجية غربية. فلا جيمس بيكر ولا غيره يمكنهم النجاح في تقريب وجهات النظر نظرا لعدة معطيات يدركها المهتمون بهذا الملف الذي أرق مضاجع quot;أحرارquot; المنطقة المتحسرين على الكلفة الباهضة لـquot;اللامغربquot; على حد تعبير المؤرخ التونسي الدكتور عبد الجليل التميمي. فلا يمكن إذن للبناء المغاربي أن يمضي قدما دون حل هذه القضية. ففي كل مرة تتوتر العلاقة بين الجانبين الجزائري والمغربي يتم تأجيل القمم المغاربية ويمتنع الجانبان عن اللقاء ما يجعل باقي الدول رهينة لتفاهمات الجزائر والرباط. لذلك علينا كتونسيين - ورغم إيماننا بضرورة قيام هذا الإتحاد وبأهميته وهو إيمان راسخ لا يمكن أن يتزعزع - أن لا نربط مصيرنا بالرمال المتحركة للعلاقات الجزائرية المغربية وننتظر حلما قد لا يتحقق ونضيع عقودا أخرى من الإنتظار دون جدوى.
نحن مطالبون اليوم بالعمل على تقوية الروابط الثنائية مع كل قطر مغاربي على حده خصوصا فيما يتعلق بالتجارة البينية ومواصلة دعم بناء الإتحاد كلما سنحت الفرصة لأننا مكون رئيسي من مكونات هذه المنطقة وفاعل أساسي في تاريخها وثقافتها ولا بد أن نضطلع بدورنا الحضاري في بناء مستقبلها، لكن علينا أن لا نوجه اهتمامنا بشكل كامل إلى هذا التكتل الإقليمي شديد الهشاشة ونبحث عن البديل في عصر التكتلات.
بإمكاننا توجيه البوصلة شرقا صوب ليبيا ومصر والعمل على إقامة مشاريع مشتركة مع هذين البلدين - والبناء على ما تم الإتفاق عليه في اللقاءات المكثفة الأخيرة اللافتة بين سياسيي البلدان الثلاثة - وذلك من خلال إنشاء بنى تحتية راقية على غرار مد السكك الحديدية وإقامة خطوط بحرية بين الموانئ التونسية والليبية والمصرية المتوسطية على وجه الخصوص وتوسعة شبكة الطرقات السيارة التي تختصر المسافات بين هذه البلدان، وتحسين شبكات الإتصالات وإنشاء المناطق الإقتصادية الحرة وسن القوانين التحررية التي تعطي امتيازات خاصة لرجال الأعمال والمستثمرين في البلدان الثلاثة التي تعيش في الوقت الحاضر وضعا مشابها. كما يجب التكثيف من الرحلات الجوية التي تربط بين مختلف مطارات هذه البلدان ليتحقق رويدا رويدا التكامل الإقتصادي التام الذي بدأت بوادره بين تونس وليبيا منذ فترة وبحاجة إلى مزيد من الدعم.
فعصرنا هو عصر التكتلات والإقتصاديات العملاقة. والإندماج في الفضاءات الإقليمية ضرورة ملحة والبحث عن مسارات أخرى أكثر فعالية ونجاعة تحقق غاية الشعوب المنشودة أمر على غاية من الأهمية في ظل تعطل البناء المغاربي. والفضاء الشمالي الشرقي للقارة السمراء فضاء على غاية من الأهمية يمكن للتونسيين التفكير فيه بجدية والمبادرة لتشكيله خاصة وأنه لا تعارض بينه وبين اتحاد المغرب العربي إذ يمكن لاحقا دمج الفضاءين في إطار شمال إفريقي يمتد من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلسي. ولا يتعارض أيضا مع ميثاق الجامعة العربية الذي يدعم التكتلات الإقليمية والمشاريع الوحدوية ولا حتى مع الفضاء العملاق الذي يوفره انتماء تونس إلى الإتحاد الإفريقي.