تسير العملية السياسية في ليبيا بخطى بطيئة ولكنها ثابتة وفي الإتجاه الصحيح الذي قد يمكن البلاد مستقبلا من بناء نظام فريد من نوعه في محيطه العربي والإفريقي والمتوسطي بشهادة أغلب المراقبين. بعد أن كان يعتقد وإلى وقت غير بعيد أن تونس هي المؤهلة أكثر من غيرها لإعطاء هذا النموذج وهي التي هبت عليها رياح التغيير قبل غيرها وهي التي تتوفر على مجتمع مدني موغل في العراقة شأنها شأن مصر.
فالإتحاد العام التونسي للشغل هو أول مؤسسة نقابية عمالية في العالم العربي. وفي تونس تأسست الأحزاب السياسية منذ العقد الأول للقرن العشرين وتحديدا سنة 1907 مع حركة الشباب التونسي التي وضعت اللبنات الأولى لتأطير مقاومة الإستعمار سياسيا ليخلفها لاحقا الحزب الحر الدستوري الذي أسسه عبد العزيز الثعالبي في السنة العشرين من القرن الماضي. كما عرفت تونس أول منظمة غير حكومية تعنى بمجال حقوق الإنسان والحريات في العالم العربي هي الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان التي عانى مناضلوها الويلات من الأنظمة الحاكمة خلال حقب الإستبداد. كما عرفت الخضراء قوانين تحررية مع فجر الإستقلال في عدة مجالات ومنها الأحوال الشخصية جعلتها تتميز على محيطها الإقليمي.
هذه المكاسب التي زادتها تألقا حرية التعبير المكتسبة بفعل الثورة مهددة اليوم بالإنقراض بسبب تصويت التونسيين خلال الإنتخابات الأخيرة لفريق سياسي يتبنى المنهج الإخواني بدأ يكشر عن أنيابه من خلال استهداف قطاع الإعلام ومحاولة مصادرة الحق النقابي ومواصلة جعل حق التظاهر يخضع للترخيص كما كان الشأن خلال العهد السابق للثورة. فاستئثار هذا الفريق بالسلطة مثلما هو الحال في مصر. سيجعل هذه المكاسب على المحك ناهيك وأن شريكي الحكم لحركة النهضة في تونس، حزبا المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل من أجل العمل والحريات ليسا إلا ديكورات باعتبار تجريد الرئيس المنصف المرزوقي من صلاحياته ومنحها لرئيس الحكومة النهضوي وباعتبار السير المبالغ فيه لرئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر في ركاب النهضة وتبنيه لأفكارها بما في ذلك الدولة الدينية الديمقراطية خلال خطاب ألقاه في مؤتمر حزب المرزوقي الأخير.
فالناخب التونسي وكذا الشأن في مصر لم يكن واعيا بطبيعة المرحلة الإنتقالية التي تعيشها البلاد والتي تتطلب توافق الجميع في اتخاذ القرارات وفي صياغة الدساتير. فلو كنا في وضع عادي لجاز تفويض فريق سياسي بعينه لإدارة شؤون البلاد لكننا في مرحلة تأسيسية لها خصوصياتها ويجب أن يعي بخطورتها الجميع. فلو فوضنا الأمور بالكامل في هذه المرحلة لطيف سياسي وصنعنا منه أغلبية مطلقة فإن التأسيس للسنوات القادمة سيكون على مقاسه ودون التفات إلى بقية مكونات المشهد السياسي. والمؤكد أن أغلبية اليوم لن تكون بأي حال من الأحوال أغلبية أبد الدهر وسيخلفها فريق سياسي آخر من المرجح أنه سيسعى إلى التغيير في الدستور - الذي كتبت أهم بنوده الأغلبية السابقة- ليصبح ملائما لتوجهاته ورؤاه الفكرية. ونتيجة لذلك ستصبح هذه الدساتير كما كانت في السابق مجرد خرق بالية يتلاعب بها الحكام كل حسب هواه.
هذا الخلل في المسار الحاصل في التجربتين التونسية والمصرية، والذي تتحمل مسؤوليته بالأساس الأحزاب السياسية ووسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني التي لم تنبه الناخبين إلى خصوصية المرحلة الإستنائية ولم تقم بدورها في توعية الناخبين، يبدو أن الجار الليبي للبلدين استفاد منه على أكمل وجه حيث كان تصويت الليبيين متوازنا. فلئن صوت الناخب الليبي بالدرجة الأولى لليبراليين، فهو لم يمنحهم أغلبية مطلقة تجعلهم أسياد القرار مهيمنين دون سواهم على المؤتمر الوطني أو المجلس التأسيسي. كما أن تصريحات محمود جبريل الفائز بأغلبية مقاعد المجلس ودعوته إلى التوافق وإلى تشكيل حكومة وحدة وطنية يشارك فيها الإسلاميون تبعث على التفاؤل وتدل على درجة عالية من النضج والوعي السياسي فاجأت أغلب المراقبين الذين توقع أغلبهم فشلا ذريعا للمسار السياسي في ليبيا.
ولكن ما تجدر الإشارة إليه أن نجاح الإنتخابات ليس نهاية المطاف في ليبيا ذلك أن أمام الطبقة السياسية الحاكمة الجديدة تحديات بالجملة منها فوضى السلاح المنتشر في البلاد والذي هدد ويهدد دول الجوار ومنها تونس حيث نشطت تجارة السلاح على الحدود بين البلدين وتم إيقاف مهربين داخل التراب التونسي وبحوزتهم أسلحة ثقيلة من بقايا معركة كتائب القذافي والثوار. هذا السلاح يهدد عملية البناء في ليبيا ويجعل الأمن أولوية لدى المواطن قبل صياغة الدساتير وبناء المؤسسات. كما أن إعادة الإعمار وبناء ما تهدم تبقى أولوية. فدولة مثل ليبيا تتوفر على تلك الكميات الهائلة من المحروقات كان من المفروض أن تصبح مثالا يحتذى في تخطيط المدن ومد الطرقات والجسور والمطارات والسكك الحديدية وقطارات الأنفاق والمدن الفخمة التي تتوفر بها جميع المرافق الكفيلة بتوفير مستوى راق من العيش للمواطن الليبي شأنها شأن الجزائر.
ويبقى مسار العدالة الإنتقالية أهم تحد سيواجه حكام ليبيا الجدد. فهم مطالبون بتوفير محاكمات عادلة لرموز نظام القذافي وأتباعهم دون انتقام أو تشف وكشف الحقيقة كاملة وإيجاد صيغة للمصالحة بين الجميع بعد اعتذار الجلاد وتعويض الضحية خاصة وأن المجتمع الليبي قبلي بالأساس والوئام المدني يبقى ضرورة ملحة فيه. فقبيلة القذاذفة ليست معمر القذافي ومدينة بني وليد ليست موالية بالكامل للنظام السابق وكذا سرت. يجب الإبتعاد عن سياسة العقاب الجماعي والإستفادة من أخطاء التجربة السياسية العراقية الفاشلة التي مارست العقاب الجماعي مع حزب البعث وأقامت عدالة quot;إنتقاميةquot; من خلال قانون اجتثاث البعث وتهميش السنة فكانت النتيجة الحاصلة اليوم أي الفشل الذريع للعملية السياسية لأن المقصى سيتحول إلى مخرب لا يمكن التخلص منه إلا من خلال إبادة جماعية تجعل الحكام الجدد يسيرون على نهج الديكتاتورية المطاح بها. ولنا في بلدان أوروبا الشرقية التي أرست عدالة انتقالية نموذجية أصدق مثال يمكن السير على خطاه في كل من تونس وليبيا ومصر.
فإذا نجح المنتخبون الجدد في ليبيا في هذه التحديات فمن المؤكد أن بلادهم ستتحول إلى نموذج لدول المنطقة. نجاح يمكن أن يخفف من مرارة الحضور المستمر للصهيوني برنار ليفي إلى بنغازي ولقاءاته المتكررة مع السؤولين الليبيين السابقين دون أن يحرك أشقاؤنا من ثوار ليبيا وشعبها ساكنا. ويخفف أيضا من مرارة تدخل الناتو وسيلان تلك الدماء من كلا الفريقين المتصارعين خلال المعارك الشرسة التي دارت بين كتائب القذافي والثوار.