تتضارب التصريحات والمواقف الإسرائيلية على المستويين السياسي والعسكري مخلفة انطباعاً بوجود ارتباك واضح في الموقف مما يجري في سوريا. فكلما شعر المتتبع لمواقفه الرسمي والاستخباراتية أنها تميل الى حل ما أو موقف معين، سرعان تتراجع عنه بشكل أو بآخر.

في 16 أيار/ مايو الجاري، نقلت صحيفة quot;التايمزquot; اللندنية عن مصادر استخباراتية إسرائيلية قولها quot;إن بقاء نظام الأسد حتى لو كان ضعيفاً أفضل بالنسبة لإسرائيل وللمنطقةquot;، وأضافت الصحيفة نقلاً عن المصادر نفسها quot; الشيطان الذي نعرفه أفضل من الوضع البديل المحتمل عنه، والذي سيؤدي إلى تدهور سوريا إلى حالة من الفوضى، وتحولها إلى موطىء قدم للمتطرفين من العالم العربي.quot;

تعبير quot;الشيطان الذي نعرفهquot; سبق واستخدمه رئيس الحكومة أريئيل شارون عام 2005، عندما شرح للرئيس الأميركي جورج دبليو بوش سبب معارضته الاطاحة بنظام الأسد، وذلك بعد أن ازداد عداء الرئيس بوش للرئيس السوري بسبب تأييد هذا الأخير الثورة على الاحتلال الأميركي للعراق، وفتحه حدود بلاده أمام المقاومة للاحتلال من كل بقاع الأرض وتهريب السلاح. وعلى الرغم من أن شارون لم يكن من محبي الرئيس السوري، لكنه كان يؤمن بالنظرية الإسرائيلية القائلة أنه من الأفضل مواجهة النظام الذي نعرفه في دمشق، من مواجهة بديل عنه غير معروف، أو مواجهة احتمال سيطرة الإخوان المسلمين، الذين يمثلون المعارضة المنظمة الوحيدة في سوريا آنذاك، على الدولة.

النظام السوري كان جزءاً من محور المقاومة، وشكل الجسر البري الذي يربط بين إيران وحزب الله في لبنان، كما دعم حركتي quot;حماسquot; والجهاد الإسلامي، وهؤلاء كلهم أعداء للكيان الإسرائيلي بشكل معلن وواضح، لكنه إلى جانب ذلك حافظ على هدوء الحدود في هضبة الجولان، وورث صيتاً بوصفه عدواً يتصرف بطريقة معروفة ومتوقعة. أما شارون فقد عارض فكرة التوصل إلى تسوية مع سوريا طوال الأعوام التي قضاها في العمل السياسي، وكذلك خلال الأعوام الخمسة التي تولى فيها رئاسة الحكومة الإسرائيلية، كما عارض بصورة خاصة الانسحاب من الجولان. بيد أن هذه النظرة الإسرائيلية تغيرت سنة 2006 ، في إثر حرب لبنان الثانية. فقد أثبتت هذه الحرب لإيهود أولمرت الذي تولى رئاسة الحكومة بعد شارون، وتؤيده فيها المؤسسة الأمنية، بأن على quot;إسرائيلquot; إعطاء الأولوية القصوى لتفكيك هذا المحور، وإخراج سوريت من محور المقاومة. ومن أجل تحقيق هذا الهدف بدأ أولمرت بداية عام 2007 بواسطة تركية، البحث في احتمالات التوصل إلى اتفاق سوري - إسرائيلي. وقد تواصلت المفاوضات غير المباشرة حينها حتى شهر كانون الأول/ ديسمبر2008 ، وذلك على الرغم من توقفها موقتاً في أيلول/ سبتمبر2007، بسبب قيام quot;إسرائيلquot; بتدمير المفاعل النووي السوري الذي كانت تبنيه كوريا الشمالية في منطقة الكبير بدير الزور.

بين عامي 2010 و 2011، دارت مفاوضات جديدة مع سوريا بوساطة تركية، وبمعرفة إدارة أوباما. كانت هذه المفاوضات جدية، على الرغم من معارضة نتنياهو العلنية للانسحاب من الجولان. وقد أدى نشوب الأزمة السورية في آذار/ مارس سنة 2011 إلى وقف هذه المحادثات.

ثمة جدل داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية حيال النتيجة المرجوة من الأزمة في سوريا، فهناك تيار يؤيد فكرة أنه من الأفضل لإسرائيل بقاء الأسد في السلطة، كرئيس ضعيف بدلاً من تقسيم سوريا، وحجة هذا التيار أنه أمام تصاعد قوة الإسلاميين وسط الميليشيات التي تقاتل الأسد واحتمال سيطرتهم على السلطة، فإن هذا سيشكل الخطر الأكبر على أمن الكيان. وفي ظل هذه الوقائع فإن بقاء الأسد هو الأفضل بالنسبة لإسرائيل لأنه quot;الشيطان الذي نعرفهquot;. في المقابل هناك تيار آخر يرى في استمرار نظام الأسد خطراً أكبر بكثير على الأمن القومي الإسرائيلي. وفي رأي هؤلاء، الذين لا يرغبون بالطبع بسيطرة العناصر الإسلامية على أقسام من سوريا، فإن الحكومة الإسرائيلية ستكون قادرة على مواجهة مثل هذا الاحتمال.

ما يؤكد ذلك أو يشير إليه بقوة، أنه بعد يوم واحد من تهديد رئيس الأركان الإسرائيلي الجنرال بني غانتس الرئيس السوري بشار الأسد من عواقب تسخين جبهة الجولان، أعلن قائد سلاح الجو الإسرائيلي الجنرال أمير إيشل أن الحرب مع سوريا قد تقع بشكل مباغت.

وفي محاضرة ألقاها إيشل، في مؤتمر الأمن القومي في معهد laquo;فيشر للأبحاث الاستراتيجيةraquo; الاسرائيلي، قال إن صواريخ أرض ــ جو متطورة من طراز laquo;إس 300raquo; باتت في طريقها إلى سوريا. وحذّر مما وصفه بـlaquo;الإفراط في الإدمانraquo; على التكنولوجيا، مشيراً إلى أنه laquo;إذا كان هناك من يعتقد أننا بكبسة زر يمكن أن ننتصر، فإنه مخطئraquo;.

إيشل الذي يعول عليه كثيراً في رسم خطة الضرباتالجوية المحتملة لأهداف على الأرض السورية، بيّن أن quot;الحرب المباغتة يمكن أن تولد اليوم بأشكال كثيرة. أحداث متفرقة يمكنها أن تقود إلى تصعيد سريع جداً يلزمنا بأن نكون جاهزين خلال ساعات لتفعيل الحد الأقصى من قدرتنا. وإذا كنا في حرب لبنان الثانية قد استخدمنا فقط جزءاً صغيراً من قدراتنا هذه، فإننا سنضطر في الحرب المقبلة لاستخدام مئة في المئة من أجل أن يكون نشاطنا سريعاً وشديداً جداًquot;.

وشدّد إيشل في معرض تفسيره لتعزيز الدفاعات الجوية السورية على أن laquo;التفوق الجوي هو شرط للانتصار وللانتصار السريع، وهو ذو أهمية استراتيجية عليا. والطرف الآخر يفهم ذلك جيداً، لذلك فإن الأسد استثمر مليارات من ميزانيته المحدودة لشراء صواريخ متطورة مضادة للطائرات إس إي ndash; 22، وإس إي - 17، وإس إي ndash; 24، وأيضاً في صواريخ إس 300، وهي في الطريق إليهraquo;.

وكشف إيشل النقاب عن أن الجيش الإسرائيلي جاهز لحرب مفاجئة ضد سوريا، وأن لدى الجيش الإسرائيلي خطة عملية مصادقًا عليها لتلك الحرب يقوم بالتدرّب عليها. كما تكلم إيشل عن حرب قصيرة الأمد تبدأ بعمليات إطلاق نار مكثفة. ولمح إلى الأوضاع التي ستلجأ quot;إسرائيلquot; فيها إلى استعمال القوة ضد سوريا.
وزير الحرب الإسرائيلي موشيه يعلون أكد أيضاً أن الأسد يخسر مقاليد السيطرة على سوريا أكثر فأكثر، ولا ينجح في وضع حد لهذه الخسارة. وأضاف يعلون، الذي كان يتكلم في مؤتمر الأمن القومي الإسرائيلي الذي عقده quot;معهد فيشرquot; في متحف سلاح الجو في مدينة هيرتسليا أن الحرب الدائرة في سوريا أدت حتى الآن إلى زوال خطر الجيش السوري التقليدي، الذي بات منهمكًا في الوقت الحالي في حرب الدفاع عن بقاء النظام، لكنه في الوقت نفسه أكد أن خطر عشرات آلاف الصواريخ والقذائف الصاروخية ما يزال يهدّد quot;إسرائيلquot;، ولذا يجب على الجيش الإسرائيلي أن يكون جاهزًا دائمًا لمواجهة هذا التهديد.

فهل تخلى quot;شيطان المنطقةquot; عن حليفه الذي كان يعرفه حتى وقت قريب، مفضلاً إنهاءه بطريقة تضمن مستقبلاً يمكن التعرف إليه والتحكم بمساراته، على التوقف والانتظار ومشاهدة المشهد الكلي وهو ينهار بأكمله.. من دون أن يحرك ساكناً؟!

كاتب وباحث