إن العداوة الضارية التي يُكنها الإيرانيون المسلمون لأشقائهم العرب المسلمين من مئات السنين والتي لا يكفون عن إذكاء نارها، حتى حين تولى قيادتهم رجال دين متشددون يزعمون أنهم وكلاء الإمام الغائب الذي سيعود ليملأ الأرض عدلا بعد أن مُلئت جورا، ليست مذهبية خالصة، بل إن فيها كثيرا من العصبية القومية التي نهى الله ورسوله عن مثلها، وأوصى باعتبارها مروقا وخروجا عن الصراط المستقيم، وأمر بنبذها والاعتصام بحبل الله دون سواه.
بعبارة أخرى. إن المشاحنات التي رافقت خلافة أبي بكر الصديق، ومن بعدها خلافة عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، وصولا إلى حروب الإمام علي ومعاوية، والإمام الحسين ويزيد، بغض النظر عن صوابها أو ضلالها، كانت في أغلبها صراعا سياسيا بامتياز لا دخل للمذاهب فيها إلا في الأقل من القليل.
وكان يمكن أن تتصاغر وتتضاءل وتختفي ولا تتسع ولا تصبح حركة مؤذية ومقلقة ومفرقة للقلوب والصفوف لولا دخول العامل القومي الفارسي المتعصب لأمجاد الإمبراطورية الفارسية التي هدمها العرب المسلمون في معركة القادسية. فكثير من الخلافات والصراعات، وحتى الحروب التي شهدتها الدولة الإسلامية أيامَ الخلفاء الراشدين وما بعدها، وبالأخص أيامَ الدولتين الأموية والعباسية، مرت وغاب ذكرها إلا ما ندر. وكان يمكن أن تنزوي خلافات الصحابة على أحقية الإمام علي بالخلافة، ومجزرة كربلاء المنكرة بحق الإمام الحسين وأسرته الكريمة، مثلما انزوى غيرها من مظالم وخطايا في زوايا تاريخنا الدامي الطويل. خصوصا وأن أغلب المؤرخين الذين عايشوا تلك الأزمنة وحوادثها أجمعوا على أن الإمام علي كان صديق الخلفاء الثلاثة، وكان ما ربطه بهم حميما وأخويا وصل في بعض حالاته إلى التزاوج والترابط الأسري المتين. واتفقوا، كلهُم، على أن الإمام كان مع الخلفاء الثلاثة ناصحا ومقوما ومصوبا ومصححا، وكانوا هم يُجلون نصحه وصدقه وعدله وُيقرون بفضله وعلو قدره الذي لا جدال فيه.
ومن الثابت الموثق، من ناحية أخرى، أن كثيرا من قادة المسلمين وصحابة رسول الله، ومنهم عرب قرشيون وهاشميون، ناصروا الإمامين علي والحسين، وحاربوا في جيوشهما ضد معاوية ويزيد، وماتوا في سبيلهما بدافع القناعة بعدالة دعواهما وصدق إيمانهما، واحتراما لقرابتهما من رسول الله. ولكن آخرين مثلهَم، من قادة وصحابة، عربا، أيضا، وقرشيين وهاشميين، قاتلوا ضدهما مع معاوية ويزيد. ولكن الذين أضفوْا على تلك المعارك طابع الخلاف المذهبي، وحولوها إلى حركة حزبية سياسية لا تسعى لمعاقبة الظالم من الحكام الأمويين أو العباسيين، بل كانت حقدا شاملا على العرب المسلمين، ورغبة في إذلالهم وتمزيق شملهم وإهدار دمائهم، وظلوا يمدونها بالرجال والمال، هم الفرس الذين لم يستطع الدين الجديد الذي دخلوه بعد سقوط الدولة الفارسية مجبرين أو خائفين او متعمدين أن يمحو فيهم تلك النعرة الثأرية الفارسية ضد أشقائهم الفاتحين العرب المسلمين.
رغم أن بعض من أرخوا لظهور التشيع زعموا أن بدايتها كانت عند سقوط آخر قلاع دولة الفرس الساسانية في عهده سنة 636 م بعد معركة القادسية بقيادة سعد بن أبي وقاص التي انتصر فيها المسلمون على جيش الفرس الذي كان يقوده رستم. حيث يروى أنه كان لآخر ملوك الفرس (يزدجرد الثالث) ثلاثُ بنات جيء بهن إلى المدينة سبايا مع جموع الأسرى الفرس الآخرين.
وقد ارد الخليفة عمر بن الخطاب بيعهن، ولكن الإمام علي تدخل وطلب تخييرهن بالزواج من أبناء الصحابة، باعتبارهن بالغات راشدات. فتزوجت الأولى من عبدالله بن عمر فأولدها سالم، وكان احد فقهاء المدينة السبعة الذين طبق علمهم الافاق، وتزوجت الثانية من محمد بن أبي بكر، فأولدها القاسم، وكان احد فقهاء المدينة السبعة أيضا، وتزوجت الثالثة (شاه زنان) من الإمام الحسين بن علي، وأسماها مريم أو فاطمة ،وأولدها الإمام علي بن الحسين (زين العابدين).
وكانت هذه الحادثة بداية لعهد جديد تميز بانعطاف الفرس نحو الإمام علي، وأولاده من بعده. فقد رأى (القوميون الفرس) أن الخلافة لابد أن تؤول بالوراثة للإمام زين العابدين، وهو حفيد الملك (يزدجر)، فيصبح بالإمكان إعادة أمجاد فارس والثأر من العرب من جديد.
ومعروف كيف خرجت العنصرية القومية الفارسية من خبائها وأعلنت عن نفسها بقوة ووضوح أيام أبي مسلم الخراساني، فكانت سبب إقدام المنصور على الفتك به وبجنده. ثم عادت وارتفعت وتيرتها من جديد وبقوة أيضا أيام يحيى البرمكي وولديه، الأمر الذي تسبب في النكبة التي أنزلها بهم هارون الرشيد.
ومن يومها والحركاتُ السرية المعادية للعرب تتوالد في إيران وتترعرع وتقوى ثم تنتشر منها نحو بلاد المسلمين. وكانت ترتدي، غالبا، ثياب الحمية والتقوى، وتتظاهر بالثورة على ظلم الخلفاء وعُمالهم في إمارات بلاد فارس، وتستظل بدعاةٍ من آل البيت الهاشمي بزعم أن الخلافة قد انتزعت منهم عنوة ودون حق معلوم. وما زالت الفتنة قائمة، تهدأ احيانا ثم تعمد العنصرية الفارسية إلى تأجيجها وشحنها، حتى صار يقال إنها أطول فتنة في التاريخ.
وها نحن، بعد ألف وأربعمئة سنة، في القرن الحادي والعشرين، ورغم كل ما ذاقه المسلمون في جميع بقاع الدنيا من مرارت تلك العداوة، على امتداد تاريخها الطويل، لم يقتنع أحد من دعاتها بأنها عداوة عبثية خاسرة لا نصر فيها لأحد. وما يزال فريق منهم إلى اليوم يُسيِّر التظاهرات ضد معاوية، ويهتف بخلافة الإمام علي ويلعن الخلفاء الراشدين.
ومن نكد الدنيا أن نعيش إلى زمن نرى فيه واحدا كحسن نصر الله (الفارسي قلبا والعربي قالبا) يخرج على الدنيا كلها، بلغة فوقية متعالية، ينادي بالجهاد من أجل الثأر لكربلاء من ورثة معاوية ويزيد في القصير وحمص ودمشق، وربما بيروت وبغداد والمنامة وصنعاء. فهل هناك تخلف وقلة عقل ومروق أكثر مما يفعل شبيحة الولي الفقيه؟
ومن الملاحظ أن كثيرا من العلماء والعقلاء المعتدلين الذين ينادوون بتجاوز حوادث الماضي، وبحصر الخلاف بين الفريقين في أمور الفقه والدين، ظهروا بين الشيعة العرب في العراق ولبنان. لكن لم يظهر بين الشيعة الفرس إلا قلة من العقلايين غير المتشددين وغير المبالغين في كره العرب وفي الرغبة في الانتقام. وحتى أؤلئك القليلون الذين ظهروا في إيران نالهم من حرس الولي الفقيه ما نال غيرهم من قمع وقتل ونفي واعتقال.
مع تأكيد حقيقة ثابتة أخرى وهي أن شرائح واسعة من الشيعة العرب في العراق والخليج ولبنان فهمت الدوافع الحقيقية لإيران، وأدركت أنها تحاول استخدام العرب الشيعة طوابير خامسة تدين بالعداء لشعوبها وتخريب أوطانها لخدمة أغراضها التوسعية، فوقفت بقوة وشجاعة، وتصدت لتلك الأوهام البائسة، فلم تستطع أموال إيران وعطاياها الباذخة سوى شراء ضمائر قلةٍ قليلة من الانتهازيين أو الجهلة الطائفيين.
فمتى تنتصر الحكمة في إيران فيدرك الولي الفقيه وأعوانه المتزمتون المملوؤن حقدا وضغينة أن حروبهم الطائفية المدمرة لن تنصر أحدا على أحد، وأن كل ما يفعلونه لا يُضر بالطائفة الأخرى وحدها، بل يكلف الطائفة الشيعية ذاتها أرواح خيرة شبابها، ويفقرها ويهدد أمنها، دون طائل، وأن الأسلم والأكثر نفعا لأهلهم أولا ولشعوب المنطقة كلها ثانيا أن يجنحوا للسلم ويحقنوا دماء المسلمين، ويجعلوا ثروات دولتهم وقوتها عامل توحيد وتهدأة وسلام؟
وما أكثر الأمثلة على شعوب، في غرب الكرة الأرضية وشرقها، تقاتلت ودمرت بعضَها في حروب طاحنة دامت عشرات السنين، ثم احتكمت أخيرا إلى العقل والحكمة فتآلفت مع أعدائها وساد بينها سلام ومودة وتعاون ما زال قائما من مئات السنين.
إن ما يزعج في هذه المعادلة هو أن الفئة الأخرى لابد أن تقابلها بعداوة مثلها، فتعد لحربها ما استطاعت من عدة ومن رباط الخيل، وتنادي، مثلها، بالانتقام. ومن المؤسف أنه في هذه وتلك يقود المجاميع المضللة رجالُ دين وضعت الأمة عمائمَ خضرا وسودا وبيضا على رؤوسهم لتذكرَهم بأن رسالة رجل الدين هي نشر السلم والتسامح والمجادلة بالتي هي أحسن وليس بالمفخخات والمليشيات وهدم البيوت على رؤوس أطفالها ونسائها وشيوخها، ولا بالذبح على الهوية، دون خوف من الله، ولا حياء من عباده أجمعين.
ترى لو عاد الإمام علي إلى الحياة، وعاد معه الإمام الحسين، وعادت معهما زينب، ورأوا ما يفعله حسن نصر الله، في سوريا وليس في فلسطين، باسمهم ومن أجلهم، ماذا كانوا سيفعلون؟ إن من المؤكد أنهم كانوا سيذرفون دموعا غزيرة على أمة جاهلة غارقة في وحل الضغينة ما زال أبناؤها، شيعة وسنة، يتقاتلون مثلما كانوا يفعلون قبل مئات السنين.
- آخر تحديث :
التعليقات