من المعروف أنّ حزب رئيس جمهورية العراق جلال طالباني قد خرج من رحم quot;النكسة الكرديةquot;، كردّ فعلٍ على الإنهيار التاريخي الذي مُنيت به الحركة الكردية بزعامة البارزاني الأب مصطفى، إثر توقيع اتفاقية الجزائر المعروفة، الموقعة بين الحكومة العراقية وإيران الشاه عام 1975، والتي انتهت بهذا الأخير إلى أميركا، حيث فيها توفى عام 1979. جذور توتر العلاقة بين الزعيم مصطفى بارزاني وخصمه اللدود العضو في قيادة حزبه جلال طالباني، تعود بالطبع إلى قبل هذا التاريخ. بسبب جملة من الخلافات الفكرية والعقائدية، انفصل طالباني عن البارزاني مصطفى، ليؤسس في الأول من حزيران 1975 (وهو تاريخ صدور أول بيان بإسم الحزب) حزباً أو اتحاداً بين ثلاثة أجنحة رئيسية منشقة عن الديمقراطي الكردستاني وهي quot;الجمعية الماركسية اللينينية الكردستانيةquot; المعروفة بquot;الكوملهquot; بقيادة نوشيروان مصطفى، وquot;الحركة الإشتراكية الكردستانيةquot; (جماعة علي عسكر و د. خالد ورسول مامند وآخرين)، وquot;الخط العامquot; المعروف بجماعة عمر شيخموس ود. كمال فؤاد ود. فؤاد معصوم وآخرين.
هذا التأسيس للإتحاد الذي شكّل لاحقاً ضربة قاصمة في ظهر حزب بارزاني، أسسّ لعداوات تاريخية معروفة، بين الحزبين راح ضحيتها الآلاف من الأبرياء، لا تزال آثارها باقيةً ليس في الذاكرة الكردية فحسب، وإنما في الراهن الكردي المعاش أيضاً، حيث كثيراً ما يعتصم العشرات من بعض ذوي المفقودين في الحرب بين الحزبين أمام برلمان كردستان ومؤسسات الإقليم ذات الشأن، مطالبين بالكشف عن مصير ذويهم، معبرين عن غضبهم لتصريحات مسؤولين حكوميين لطالما قالوا أنّ جميع المدرجين في لائحة quot;المفقودينquot; هم في عداد الأموات.
بعد الغزو العراقي للكويت في الثاني من أغسطس 1990، أصبح العراق quot;غازياًquot;، ما استوجب quot;حرباً تحريريةquot; بتفويض أممي ضدّه، فقامت quot;عاصفة الصحراءquot; التي شنتّها قوات التحالف المكوّنة من 34 دولةٍ تحت قيادة الولايات المتحدة الأميركية، في السابع عشر من يناير 1991.
النزوح المليوني للأكراد في ربيع 1991 نحو الحدود العراقية مع إيران وتركيا، دفع بالعالم إلى إعادة قراءتهم للمأساة الكردية، ضحايا التاريخ كما الجغرافبا، وإنشاء quot;منطقة حظر جويquot; في كردستان، الأمر الذي مهّد لاحقاً لإقامة إقليم كردي في كردستان العراق. دخل مشروع quot;إقليم كردستان العراقquot; بإعتباره إقليماً شبه مستقلاً، حيزّ التنفيذ الرسمي، مع أول انتخابات كردية جرت في يونيو 1992، إلا أن نتائجها لم ترضِ جميع الأطراف، ما أدى إلى اتفاق بين الحزبين الرئيسيين الديمقراطي الكردستاني والإتحاد الوطني، يقضي بتقسيم مقاعد البرلمان بينهما مناصفةً، وفقاً لقاعدة ما يُعرف بquot;الفيفتي فيفتيquot;.
لكن الخلاف على تقسيم فوق كردستان وتحتها بين الحزبين الحاكمين لم ينته عند هذا الإتفاق. ملفات كثيرة مثل الخلاف على المنافذ والمعابر الحدودية وطرق التجارة والموارد ومبيعات النفط وغيرها، بقيت عالقةً بين قيادتي الحزبين، فكانت النتيجة quot;الحرب الداخليةquot; الطاحنة بين الحزبين، والتي تسمى في الأدبيات الكردية بquot;حرب الأخوةquot; (براكوزي)، وذلك في الفترة ما بين عامي 1994 و 1996، والتي راح ضحيتها الآلاف.
بتدخلّ مباشر من أميركا انتهى القتال بين الحزبين الكردستانيين على كردستان، وذلك بعد توقيع الطرفين على إتفاقية واشنطن في سبتمبر 1998. الإتفاق انتهى عملياً إلى سيطرة كلّ حزبٍ على كردستان(ه)، حيث بسط الديمقراطي سلطته المطلقة على quot;كردستان هولير+دهوكquot;، والإتحاد الوطني على quot;كردستان السليمانيةquot;.
استمرّت علاقات الحزبين بين مدٍّ وجزر، إلى أن تحررّ العراق من قبضة ديكتاتورية صدام حسين في التاسع من نيسان 2003. بعد هذا التاريخ كان لا بدّ لكردستان العراق أن تتبدّل وتبدّل معها شكل العراق في بغداد أيضاً. فصارَ العراق بحكم الدستور الذي قبل به الشعب العراقي بالأغلبية في 15.10.2005، رسمياً إلى عراف فيدرالي أو عراقَين، واحد عربي (سني+شيعي) في الجنوب والوسط، وآخر كردي في الشمال (إقليم كردستان). صعود كردستان في عراق(ه)، كquot;إقليم شبه مستقلquot;، له علمه الخاص، ودستوره الخاص، ورئيسه الخاص، وحكومته وبرلمانه الخاصّين، وعلاقاته الخارجية الخاصة، واستخباراته وأجهزته الأمنية الخاصة، وميزانيته الخاصة، ناهيك عن جيشه الخاص الذي يفوق تعداده ال 200 ألف بيشمركة، كلّ ذلك بالإضافة إلى الضغوط الخارجية وفي مقدمتها الأميركية، أجبر الحزبين الحاكمين لكي يتفقا على ما كانا يختلفان عليه، في العراق السابق، لمواجهة الظروف والتحديات الجديدة، في العراق الجديد، وهو الأمر الذي انتهى بهما إلى توقيع ما يسمى بquot;الإتفاق الإستراتيجيquot;، بمباركة أوروبية وأميركية، في 21.01.06.
مع دخول هذه الإتفاقية quot;الإستراتيجيةquot; حيّز التنفيذ في كردستان، دخلت هذه الأخيرة في فساد استراتيجي كبير ما بعده فساد. الإتفاقية قضت عملياً على كلّ شيء، إسمه ديمقراطية بإعتبارها حكماً من الشعب إلى الشعب. كلّ شيء في كردستان من التحت إلى الفوق، أصبح خاضعاً لquot;مشيئةquot; هذه الإتفاقية، لكأنها quot;آية كردية منزّلةquot;. ما أدى إلى quot;صعودquot; الفساد السياسي والمالي والإداري في كردستان، ليتحوّل من حالة عرضية إلى quot;مشروعquot; وquot;برنامجquot; وquot;خطة استراتيجيةquot; لإبتلاع كردستان كلها. الفساد في كردستان، وفقاً لشريعة هذه الإتفاقية، ما عاد استثناءً، وإنما أصبح قاعدةً كردية، من الصعب الخروج عليها، على طول كردستان وعرضها.
استئثار قلة قليلة من قيادات الحزبين الحاكمين بمقدّرات كردستان ومليارات ميزانيتها التي تساوي 17% من مجموع ميزانية العراق، والتي بلغت 100 مليار دولار لعام 2012، ناهيك عن استئثار فوق الحزبين بالإمتيازات النفطية، أدى إلى صعود معارضة قوية، لأول مرّة، في كردستان، بقيادة الرجل الثاني في حزب طالباني ونائبه نوشيروان مصطفى، الذي خاض الإنتخابات البرلمانية بقائمة مستقلة (التغيير/ كوران) عام 2009، حصدت 25 مقعداً من أصل 111 مقعداً.
منذ دخول quot;التغييرquot; معترك الحياة السياسية في كردستان العراق، يمكن القول بأنّ هذه الأخيرة قد دخلت منعطفاً جديداً، سيكون من الصعب على الحزبين الحاكمين تجاوزه. حركة التغيير/ كوران تحت قيادة مصطفى المنشق عن quot;صديق العمرquot; طالباني، تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى رقم كردي صعب في ديمقراطية كردستان التي خطفها الحزبان الحاكمان، تحت مسميات quot;استراتيجيةquot; أقل ما يمكن أن يقال فيها أنها كرّست الديكتاتورية وحكم العائلات والفساد على مستوى فوق الحزبين.
خروج حركة التغيير/ كوران عن طاعة طالباني، وحصادها لأكثر من نصف مقاعد حزبه في معقله السليمانية، كانت الضربة التي قصمت ظهره، وهو الأمر الذي دفع بشريكه الديمقراطي الكردستاني إلى إعادة النظر في بعض بنود اتفاقيتهما quot;الإستراتيجيةquot;. فحزب طالباني بعد خسارته الفادحة لأكثر من نصف ثقله في quot;كردستان السليمانيةquot;، ما عاد من وجهة نظر الديمقراطي بالطبع يستحق أن يكون شريكه الكامل، quot;الفيفتي فيفتيquot; في كردستان، كما يقول نصّ الإتفاق.
التكتيك في السياسة، قد يصبح استراتيجية، والإستراتيجية فيها قد تتحوّل بين ليلة وضحاها إلى تكتيك. الأمر ذاته يمكن سحبه على اتفاقية الحزبين quot;الإستراتيجيةquot;، والتي كان فيها منذ الأول من توقيعها، من التكتيك أكثر من الإستراتيجية، ومن الإلتفاف والنفاق على كردستان وشعبها، أكثر من الإتفاق عليهما.
quot;ابتزازquot; الديمقراطي الكردستاني وإحجامه للإتحاد الوطني الكردستاني بعد نكسته الأخيرة في الإنتخابات البرلمانية، كما يشكو قادته، دفع بهذا الأخير هو الأخر أن يعيد النظر في حساباته وتحالفاته، لحفظ ما تبقى من ماء الوجه.
من هنا بدأ قادة الإتحاد، وعلى رأسهم طالباني، ربما بضغطٍ من صقور الحزب، بالتفكير في الحوار مع غريمهم المنشق عنهم نوشيروان مصطفى، علّ وعسى أن يكون في الحوار قوةً للطرفين. لما لا وكلا التيارين شربا من نبعٍ إيديولوجيا واحدة، ورضعا من ثدي quot;اشتراكيةquot; واحدة.
فهذا الفرع هو من ذاك الأصل.
الحوار بين الغريمين أو لنقل بين quot;الأخوة الأعداءquot;، حوّله طالباني قبل مرضه الأخير، من نظرية إلى واقع، ومن اللامفكر فيه إلى مشروعٍ ربما هو قيد الدرس. زيارة زعيم كوران في 24 من سبتمبر الماضي إلى quot;الصديق العدوquot; جلال طالباني، والتي لاقت ارتياحاً شعبياً كبيراً في الأوساط الشعبية لدى أتباع الحزبين خصوصاً في quot;كردستان السليمانيةquot;، جاءت ترجمةً واضحة لإنفراج العلاقات بين الجانبين، والتي قد تتطور في المستقبل نحو الإعلان لدمج الحزبين في اتحادٍ جديد لمناطحة الديمقراطي الكردستاني وكبح جماح أطماعه في كردستان واسئثاره بغالبية إن لم نقل بكلّ سلطاتها.
هذه الزيارة الأولى من نوعها، والتي وصفت من الجانبين، آنذاك، بquot;الإيجابية والصريحةquot;، إلى جانب زيارت أخرى متبادلة لحقتها أثارت قلقاً كبيراً لدى بارزاني وحزبه، فأي تقاربٍ بين هذه الغريمين كوران والإتحاد، سيعني مباشرةً التباعد بين الشريكين في الحكم، أيّ الإتحاد والديمقراطي. وما زاد من طين قلق quot;الديمقراطيينquot; بلّةً، هو وصف زعيم quot;الإتحاديينquot; طالباني للقاء بقوله: quot;كانت آراؤنا متقاربة جداً حول الكثير من المسائل المهمة المتعلقة بالوضع السياسي في كردستان والعراق، وهذه المحادثات ستدّشن لمرحلة جديدة من علاقات التعاون بين حركة التغيير والاتحاد الوطنيquot;. لا بل زاد طالباني على ذلك بالقول، quot;بأنه لم تعد هناك أية مشكلة بين الاتحاد والتغييرquot;.
يبدو أنّ مرض طالباني الذي يعتبر صمام أمان quot;الإتفاقية الإستراتيجيةquot; بين حزبه وبين حزب بارزاني، وغيابه كحلقة وصل أو حل وسط بين الجميع، سواء داخل حزبه أو بينه وبين حزب بارزاني، قد أثّر سلباً على العلاقات المتوترة أصلاً بين الطرفين. فلا يكاد يمرّ يومٌ على كردستان إلا ونشهد تصريحاً وتصريحاً مضاداً، أو تصعيداً وتصعيداً مضاداً بين قيادات الصف الأول من الحزبين.
حالياً تشهد الساحة السياسية في كردستان معركةً حامية الوطيس بين حزب بارزاني وأحزاب المعارضة، التي تحاول بكل الوسائل كسب حليف بارزاني إلى جانبها، لتطويق ما يسمى في الأوساط الكردستانية بquot;حكم العائلة البارزانيةquot;، التي تسيطر فعلياً على الرئاسات الثلاث، ناهيك عن السيطرة على كلّ مفاصل الدولة الحساسة، كالبيشمركة والإستخبارات والأجهزة الأمنية، وذلك بحكم الصلاحيات الواسعة التي منحها الرئيس بارزاني لنفسه.
جوهر خلاف أحزاب المعارضة التي انضم إليها حزب طالباني مؤخراً مع بارزاني، على مسوّدة الدستور، يتمحور حول نقطتين أساسيتين: الأولى، تغيير النظام السياسي في كردستان من نظام رئاسي إلى نظام برلماني. الثانية، تحديد وتقليص صلاحيات رئيس الإقليم الواسعة (24 صلاحية)، التي تمنحه سلطة مطلقة، لجعل منصبه تشريفاتياً، على غرار منصب رئيس الجمهورية في عراق المركز.
إلى جانب الخلاف بين الحزبين على الكثير من الملفات على مستوى الداخل الكردستاني، برز في الآونة الأخيرة، خصوصاً بعد اشتعال الأزمة السورية قبل أكثر من 26 شهراً، خلاف آخر له علاقة بالإستقطابات والتجاذبات الإقليمية والدولية. ففي الوقت الذي نرى فيه رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني قد انحاز إلى quot;الحلف السنّيquot; الذي تقوده تركيا مع السعودية وقطر، نرى حزب طالباني منحازاً في رؤيته للمشكلة السورية إلى quot;الحلف الشيعيquot; بقيادة إيران. ولإنحياز كلا الطرفين، بالطبع، أسبابه التاريخية والعقائدية والجيوسياسية.
قرار الإتحاد الوطني الأخير خوضه الإنتخابات المقبلة بقائمة منفردة، وتحديه لرغبة بارزاني في تمرير مسودة الدستور، وانضمامه إلى جبهة أحزاب المعارضة الرئيسية (كوران التغيير + الإتحاد الإسلامي الكردستاني + الجماعة الإسلامية الكردستانية) في دعوتها لإعادة مشروع دستور كردستان إلى البرلمان قبل طرحه على الإستفتاء الشعبي، يعني أن لعبة quot;قلب الطاولةquot; قد بدأت بين حزب طالباني وحليفه. عليه فإن خروج حزب طالباني عن quot;طاعةquot; بارزاني كquot;حليف تحت الطلبquot;، ولعبه لدور quot;بيضة القبانquot; بين حليفه والمعارضة، يعني أنّ quot;الإتفاقية الإستراتيجيةquot;، أو ما يمكن تسميتها بquot;المسيار الكرديquot;، باتت مهددة بالإنهيار.
فهل سيفسخ حزب طالباني quot;المسيارquot; بينه وبين حزب بارزاني، أم أنّ العملية لا تخرج عن كونها quot;تكتيكتاً مرحلياًquot;، كي يعيد quot;الطالبانيونquot; الإعتبار لحزبهم كquot;شريك قويquot; مع quot;البارزانيينquot;، وتثبيت أقدامهم بالتالي في quot;الإتفاقية الإستراتيجيةquot;، كشركاء quot;فيفتي فيفتيquot; فاعلين، بدلاً من كونهم quot;شركاء تحت الطلبquot; مفعولين بهم؟
التعليقات