ما الذي يجعل الروح تنجذب وتحب منذ النظرة الأولى.. ماهذا الخيط السري الذي يربط البشر ويفرض عليهم الإحترام والشوق والإلتزام والتضحية.. لماذا تتداخل الأرواح وتمتزج، لماذا نشعر بالتوحد مع هذا المحبوب وليس غيره؟

كان القدر قد إنتهى تواً من دحرجتي صوب حياة جديدة أنا الذي يتغنى بالحرية لم أختر شيئا من حياتي.. إستسلمت للحتميات المفروضة عليّ من أحداث وأشخاص وظروف، كل مايصدر عني هو سلوك عفوي لادور فيه للإرادة والإختيار، ونادرا ما أستخدم وأستفيد من خبراتي، وهذا ليس تبريرا لأخطائي التي أتحمل مسؤوليتها.

رأيتها في مكان عملها، إنبعث مني وميض وشعور دافيء نحوها، كنت خارجا من المستشفى وأعيش ظرفا تعسا أخبرتها به، رباه أكاد أبكي حينما أسترجع تلك اللحظات، ربتت على أحزاني بنظرة حميمة.. لاأدري أين رأيتها من قبل.. في اليوم التالي تعمدت الجلوس قريبة مني على الطاولة المجاورة في الحفل الصغير الذي أقيم في مكان العمل، فاجأتني بإهتمامها أو شفقتها (( أنت بخير لاتهتم )) قالت مبتسمة وكتبت صفحة قدري معها !

أتساءل : هل أكتب عنها.. أم عن نفسي..أم عن الحب، وأيهما له الأولوية؟.. في الحب يُشنق العاشق على مذبح البوح.. عذابه وسعادته في إنهمار المشاعر من محبس الكتمان، يريد الكلام والشكوى حتى للحجر!

أعرف أنفاسي تعذبها وتقتحمها باراسايكولوجيا.. (( أعلنت الحرب بسبب عدم حضوري حسب الموعد ))، ورددت عليها بإبتسامة خجولة وكأنني أنا المذنب، قهرني الصمت في تلك اللحظة، لم أستطع الحديث عن الجرح العميق الذي سببه لي عدم إحترامها للموعد وتخلفها عنه في المرة الماضي، لاأظنه تسامحا مني، بل كنت حينها مشلولا بسطوة طوفان مشاعر الحب الذي غمرني وخسرت فرصة ثمينة للعتاب !

بعد مضي فترة طويلة على معرفتي بها، وافقت على مقابلتي في الكافتيريا، كنت سابقا أراها في مكان عملها بشكل متقطع، ونتواصل عن طريق الهاتف بأوقات متباعدة.. وبقيت ألاحقها وألح عليها.. من سوء حظ العشاق انهم دائما مقهورين أمام سطوة الحب وطغيانه، لاتوجه اللوم للمحب مالم تعش تجربة اللهفة والشوق، كنت أتصرف معها تحت ضغط نار العاشق، بينما هي كانت تتعامل معي ببرودة ولامبالاة المعشوقة.

(( وزنك نقص كثيرا )) كانت أول جملة تنطقها عندما وصلت في الموعد، شعرت كما لو انها تنثر حنانها وأساها، هذه من المرات النادرة التي تظهر فيها مشاعرها الإنسانية، هل كانت متألمة من أجلي.. أم محبطة للصورة البائسة التي عليها الرجل المعجب بها الذي وجدته لايليق بها؟ (( بسبب مرض السكر )) أجبتها. لم أستطع مواصلة الحديث، إختنقت، ولجمت لساني لحظة رؤيتها، كنت خلال المدة الماضية قبل اللقاء بدأت أنسى الكلام.. كلما تقدم بي العمر أُصبح أكثر صمتا وميلا للإصغاء.. لاأعرف إن كانت تنطبق عليّ مقولة (( كلما إتسعت الرؤية ضاقت العبارة )) ربما الأدق والأصح بالنسبة لحالتي هو : كلما إزداد قرفي من الحياة والناس، وتهاوت أمامي الشعارات والأوهام... يعتقل لساني الشعور بالإحباط !

كنت أشعر بها قريبي مني، بل تتغلغل في كل جزء من فكري وروحي، لم أنم ليلة الموعد وبقيت يقظا حتى الصباح بعد ان مارس الحب معي لعبته المفضلة في إشاعة القلق والخوف.. توقعت حدوث كافة عراقيل وكوراث الدنيا التي ستمنعني عن حضور اللقاء. قاومت فكرة إرتداء الملابس الأنيقة، وذهبت وأنا أرتدي العادي منها، كم يبدو مضحكا وسخيفا الإنسان عندما يتأنق ويعرض نفسه على الناس لكسب إعجابهم، أشعر بالفزع والصدمة لمجرد التفكير انها سيزداد إعجابها بي إذا رأتني أنيقا، لاأريدها لها الإنحدار الى هذا المستوى المتخلف من القيم والذوق.

لاأحد يحب الآخر صدفة.. هكذا تقول عقيدة تناسخ الأرواح، فكل حبيب يتعرف على محبوبه الذي سبق أن إلتقى به وعاش معه في حياة ماضية، ولهذا منذ النظرة الأولى يشعر العشاق بالألفة والإنسجام وكأنهما يعرف أحدهما الآخر من زمن طويل. كنا هناك.. نسبح في رحم الزمان أنا وإياها تنقلنا من جسد الى آخر ومن مكان الى غيره، وعدنا الأن نجتمع. جلستُ عشرات المرات أتطلع في خارطتها الفلكية أبحث عن الأسرارالباطنية والألغاز وجواب عن سؤال : لماذا التقى أحدنا بالآخر؟

لم أنتظر منها في يوم ما تقول لي : أحبك.. لاأعرف السبب إن كان شعورا مني بعدم الجدارة.. أم إستغراقي في (حب الحب ) فقط من دون محاولة الحصول على النتائج.. أم هي مشاعري المتدفقة التي لاتطلب الثمن.

خلال دقائق اللقاء القصيرة.. إفتعلت ورود عدة مكالمات هاتفية لها من البيت تستعجلها العودة.. وكانت طعنة جديدة لي.. تمنيت لو انها رفضت المجيء بدل إنهيار صورتها أمامي وصدمتي بكذبها !

إنتهزتُ فيما بعد فرصة تأخرها الرد على آخر رسائلي لها.. بعثت لها رسالة معتذرا فيها عن إلحاحي الكثير عليها في الماضي، وأبلغتها بقراري التوقف عن التواصل معها الذي طالما كررته عليها فيما إذا كانت منزعجة مني وتريدني الكف عنها، وكانت ترفض هذا وتشجعني على الإستمرار ربما كانت تستثمر حبي لها في الشعور بإنوثتها وقيمتها والحصول على سعادة مجانية من شخص لايطلب شيئا ماعدا عرض الزواج المتكرر عليها، أنهيت هذا الحب من طرف واحد كي إرتاح منه، وأيضا أُريحها مني، لكن هل حقا إنتهى كل شيء؟

[email protected]