على الرغم من القتل الممنهج والجماعي الذي لجأ إليه نظام بشار الأسد في مواجهته ضد شعبه والذي خلف ملايين الضحايا، بين قتلى وجرحى ومفقودين ولاجئين ونازحين، يقف المجتمع الدولي حتى الآن دون إرادة حيال ما يحدث في سورية، ودون أن يتخذ مواقف حاسمة تنسجم مع الفاصل التاريخي، التقني والسياسي والقيمي، الذي تمر به البشرية في القرن الحادي والعشرين، كأن العالم لم يتجاوز بعد مرحلة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وكأن الصورة الحية والموثقة، للتوحش الذي ضرب حياة السوريين بهذه القسوة، والتي سمحت بانتقالها ووصولها إلى كل أرجاء العالم، الثورة الإعلامية والمعلوماتية،أصبحت دون قيمة وبلا أي تأثير على ضمير الإنسانية شعوبا وإدارات سياسية.!!! فما الذي حصل و كيف يمكن تفسير ذلك؟

بعيدا عن المنظورات التي تحمل شيطنة للآخر الغربي والدولي، ونبذا لما تتكئ عليه من استعادة مأساوية لعداءات أزلية تستهدف الذات العربية والإسلامية وتعيق نهضتها، تجيب هذه السطور بما يلي:

أولا: أجاد النظام السوري وعلى العكس مما دأب المعارضون السوريون قوله، إدارته لصراعه ضد شعبه، فعمل بمنهجية مدروسة وبقدر عال من الحرفية السياسة التي لا تنقصها المعرفة بمكامن القوة ومواطن الضعف التي لديه، وبالممكن والمتاح توظيفه لمصلحته،محليا وإقليميا ودوليا.محليا أفاد من قتله السياسة وتعقيمه للحقل العام،فاستدعى ما كان قد كرسه من تناقضات وتعقيدات ( دينية ومذهبية ndash; اثنية ndash; مناطقية ndash; عشائرية ) في البنية الاجتماعية السورية، كما استفاد من هياكل الدولة الأمنية والعسكرية التي فصلها على قده السلطوي، ومن شبكة المصالح المعقدة التي شيدها واخترقت طبقة رجال الأعمال والماكينة البيروقراطية للدولة وقطاعات عريضة من المحسوبين على فئة المثقفين والكتاب والفنانين. إقليميا استفاد من الوضع الجيوسياسي المعقد للمنطقة التي تنتمي إليها سورية، وضمن حياد إسرائيلي استراتيجي إزاء الوضع السوري، الذي لم يغير منه شيئا، القصف الإسرائيلي الأخير لمواقع النظام السوري في جبل قاسيون، إضافة إلى أنه أفاد من المحور الإيراني الذي ينتمي إليه، سياسيا وعسكريا إلى الحدود القصوى. أما دوليا فقد وظف خبرته في تصنيع و اختراق فرق التشدد العنفي الديني وفي استدعاء البيئة المناسبة لنشاط الجماعات الأصولية، في إرباك الموقف الدولي من الحالة السورية وإدخاله في حالة القلق والانفعال والتردد بدلا من المبادرة والفعل، كما تنبه بشكل مبكر لأهمية الدور الروسي، ولاستياء روسيا من تدخل الناتو في ليبيا،ولما اعتبرته خداع في تفسير قرار مجلس الأمن المتعلق بليبيا، فحرك نظام بشار الأسد عددا كبيرا من أنصاره ودبلوماسييه في موسكو، وأنشأ خطا ساخنا مع الروس، وبنا لوبي داعم له في هذا البلد، ثابر من خلاله على تقديم سيناريو مشوه عن الثورة السورية، عن أسبابها وداعميها وناشطيها ورهاناتها ونتائجها، مستغلا هواجس الدولة الروسية المتعلقة بأمنها القومي وتمدد الغرب صوبها وانحسار مساحات نفوذها وتخوفها من الإسلام الأصولي وخبرتها السيئة مع الثورات الملونة في محيطها وحساسيتها من احتمال اندلاع احتجاجات شعبية على أراضيها.
بيد أن الإدارة الناجحة التي حققها نظام بشار الأسد لم تقف عند ذلك الحد، بل وصلت إلى أقصى ما أمكنها،حين عمد إلى تقنين جرعات العنف والقمع الذي واجه به المجتمع السوري ليزيد من كمه و نوعه بشكل تصاعدي مع استمرار الثورة، بحيث يتحقق له نتيجة لذلك هدفين مهمين لهما قيمة إستراتيجية في صراعه الوجودي الذي يخوضه، الأول يستدعي من خلاله عنفا ثوريا مضادا ( له شرعيته ) يزداد و تتعقد آثاره هو الآخر مع الوقت سيما ولا أطر سياسية منظمة ومؤسسة تتفاعل معه وتقوده، ليصل شيئا فشيئا بالوضع السوري إلى التشوش الذي وصل إليه بالفعل، والثاني يتجنب به خدش الحياء الدولي وإثارة الضمير الإنساني بما قد يدفع لعمل دولي حاسم ضده، إذ أن الرأي العام الدولي الذي أمكنه أن يتقبل في الأيام الأولى للثورة السورية سقوط بضع ضحايا في اليوم الواحد، صار يتقبل مع سياسة التقنين والرفع المتزايد لجرعات العنف الحاصل مع تعقيد وتشويش صورة ما يحدث في سورية، سقوط مئات الضحايا يوميا ووصول عددهم الكلي رسميا عتبة المائة ألف، الأمر الذي لو حصل في الأيام الأولى للثورة لكانت آثاره مختلفة جذريا.

ثانيا: فشلت قوى المعارضة السورية التي تولت بشكل أوتوماتيكي دفة إدارة الوجه السياسي للثورة، في مهمتها فشلا ذريعا،بل كانت عبئا حقيقيا على الثورة الشعبية وإعاقة موضوعية لها، فقد كانت بنخبويتها وكتلويتها وانغلاقها الأيديولوجي وغياب علاقتها الأصيلة مع القيم الديمقراطية وبعدم ممارستها السياسة إلا بوصفها حديث في العام عن الديمقراطية والاستبداد وحقوق الإنسان، وبعدم قدرتها على الانتقال من السياسة بوصفها خطاب نظري إلى حيث تصبح آليات وخطوط عمل على الأرض،كارثة على الوضع الثوري في البلاد، لم تستطع أن تتفاعل معه ولا أن تؤثر فيه،فتركت الواقع الداخلي على العموم يتحرك محصلة لتفاعل معطياته و حيثياته الذاتية دون أن تتمكن من تلافى الألغام (طائفية ndash; اثنية ndash; عشائرية - مناطقية) التي عكف النظام على صنعها وتكريسها طوال العقود الماضية، وعجزت رغم إدراكها لضرورة العامل الخارجي في انتصار الثورة،عن الاستجابة لهذا الفهم بموقف واضح وحاسم من موضوع التدخل الدولي مع بداية قمع النظام للثورة،ثم افتقدت حين حسمت موقفها في وقت لاحق، بجهلها للتقنيات السياسية المناسبة، القدرة على التأثير في الإدارات السياسة للدول والضغط عليها من أجل دعم الثورة والانتصار لها، فكانت محصلة موقف المجتمع الدولي من الثورة السورية نتيجة لدينامياته الذاتية ومحصلة لتفاعل مصالح أطرافه وتجاذباتها، مضاف إليه نجاح النظام النسبي،المشار إليه آنفا، في اللعب على بعض الأوراق الإقليمية والدولية وتسخيرها لمصلحته. وفوق كل ذلك وبسبب من أزماتها البنيوية دخلت هذه المعارضة في صراع مسف ومزر على الهيمنة فيما بينها فبددت هيبتها أمام شعبها وأمام العالم وبدت إمكاناتها في تقديم البديل السياسي الفعال عن الاسدية في سورية أكثر ضعفا.

على أن ما تقدم لا ينفي أن المآل الأخير للثورة السورية هو التحقق والنجاح، وإنما يؤكد أن حركة التاريخ وانعطافاته الكبرى لها أثمانها الباهظة و أن العامل البشري فاعل في هذه الحركة وذو أثر كبير في ضبط هذه الأثمان وتعيينها.