ماهي الوسيلة الأنجع للتأكد من صحة النظرية العلمية؟ إنها دقة الحسابات والمعادلات الرياضياتية وأناقة النظرية وتطابقها مع المشاهدات والحقائق المرصودة والتجارب المختبرية لإثبات صحة تنبؤاتها وتوقعاتها.

مهمة بلانك تكشف طفولة الكون المرئي أو المنظور.

في شهر آيار مايو 2013 حققت البشرية نصرا علمياً جديداً وتقدمت خطوة إلى الأمام في طريق الوصول إلى بداية الكون المرئي أو المنظورمن خلال آخر اكتشافات مهمة بلانك satellite europeacute;en Plack والتي تم نشرها قبل بضعة ايام، حيث نجح بلانك في تسجيل أول ضوء انبثق من الكون الوليد بعد تحرر الفوتونات قبل أكثر من 13.8 مليار سنة حيث توصلت إلى الحصول على ضوء أقدم ب 100 مليون مرة من الذي عهدناها ما يعطي للكون عمرا يبلغ 13.8 مليار سنة بدلا من 13.7 مليار سنة. إن الصورة التي نشرتها الهيئات العلمية المتخصصة وعلى رأسها وكالة الفضاء الأمريكية ناسا لا تعني للإنسان العادي شيئاً فهي في نظر غالبية البشر ليست أكثر من صورة لبيضة مرقطة بمليارات النقاط الملونة بالألوان الحمراء والبرتقالية والصفراء والزرقاء والموزعة بصورة عشوائية لأنه لا يدرك أن كل نقطة محملة بكم هائل من المعلومات التي تروي لنا جزءاً من تاريخ بداية العالم المادي كما خلدته لنا أولى الإشعاعات الضوئية في الــ 370000 سنة الأولى التي أعقبت حدث الانفجار العظيم Big Bang والمعروفة بإسم الخلفية المكروية الكونية المنتشرة في كل مكان من الكون المرئي أو المنظور le fond diffus cosmologique. وكانت وكالة الفضاء الأوروبية إيسا ESA قد أطلقت هذا التلسكوب الفضائي سنة 2009 وهو عالي الدقة والاتقان والكفاءة التكنولوجية بحيث أن الصور التي التقطها من عمق الفضاء الكوني أفضل ألف مرة من الصور الأولى التي التقطت لبداية الكون المرئي أو المنظور سنة 1990 من قبل التلسكوب الفضائي الأمريكي كوب COBE وتم عرض صور بلانك في باريس عن أصل الكون portrait HD de nos origines أي صورة بورتريه عالية الدقة لأصلنا أو الصورة الأصل أو المصدر المرئي الأول للكون image source حسب تعبير وسائل الإعلام الفرنسية، وهي الصور التي تختزن أقدم بصمات لأولى اللبنات للبنيات الأولية للكون في اللحظة 10-35 من الثانية بعد الانفجار العظيم وهو انجاز تكنولوجي هائل حققه البشر في مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين الذي نجح في التقاط الأشعة الكونية المتحجرة rayonnement fossile والتي تحتوي على منجم من المعلومات العلمية الجوهرية التي باتت الآن بين أيدي العلماء المتخصصين الذين ينكبون الان على دراسة بصمات اللبنات الأولى مما سيتيح لنا لاحقاً شرح وتفسير ومعرفة أصل الكون المرئي أو المنظور الحالي الذي نعيش فيه. ومن خلال فك رموز الصور تم تفسير وإثبات حدوث أحد ألغاز الكون المرئي ألا وهو الانتفاخ أو التضخم السريع والهائل lrsquo;inflation بعد أن كان حدوثه افتراضياً ونظرياً من قبل عدد من علماء الكونيات والمنظرين الفيزيائيين كما كان الحال عندما افترض أحدهم وهو بيتر هيغز نظريا ورياضياتياً وجود جسيم الرب أو بوزون هيغز الحامل لكتل الجسيمات قبل نصف قرن من اكتشافه حيث تم إثبات وجوده علمياً ومختبرياً في شهر آب 2012 وتأكيده نهائياً في شهر مارس آذار سنة 2013 وبصورة نهائية لا تقبل الدحض بغية تفسير أصل ومصدر كتلة الجسيمات الأولية. أما التضخم فهو أروع وأهم لأنه يكشف عن كونه الأصل لنشوء وظهور المادة وكل البنى الحالية للكون المرئي أو المنظور. وذلك سوف يؤثر بلا أدنى شك على كثير من الثوابت والقيم والحسابات الرياضياتية وربما على سياق نظرية النسبية العامة لآينشتين التي مازالت صامدة أمام عواصف الاكتشافات الكونية. تأتي مهمة بلانك اليوم لتكرس صحة نظرية الانفجار العظيم أو الكبير البغ بانغ باعتبارها الصيغة العلمية المثبتة علمياً لولادة أو إنبثاق الكون المرئي وليس لخلقه كما تقول الميثولوجيا الدينية، وخروجه من رحم حالة الضبابية المعتمة brouillard opaque أي الحساء الكثيف جداً الذي كان يسبح فيه الكون إبان الانفجار العظيم عندما كانت درجة حرارته تقدر بمائة ألف مليار المليار المليار درجة وفي قلب هذا الجحيم كانت الجسيمات الأولية تتلاطم في حالة اضطراب كبير ساجنة في طياتها الفوتونات النقالة أو الحاملة للضوء. وفجأة بدأ الكون بالتمدد والتوسع وبانخفاض ملحوظ في درجة حرارته وتغير ظروفه الأولية. ثم بدأت مرحلة إعادة الترتيب والتركيب recombinaison عند مرحلة الــ 370000 سنة بعد الانفجار العظيم عندما كانت كثافته أكبر مليار مرة من كثافته الحالية إلا أن درجة حرارته بلغت 2700 كلفن، عندها، هدأت الجسيمات نسبياً وبدأت تنظم نفسها على شكل ذرات مستقرة من الهيدروجين والهليوم التي تعتبر أولى مكونات الكون المادي، ومن ثم تحررت الفوتونات متجهة نحونا بسرعة الضوء أي 299792458 متر في الثانية أو 300000 كلم في الثانية وإن تلك اللحظة بالذات هي التي استطاع تلسكوب بلانك الفضائي التقاطها وبفضله صرنا نعرف أول صرخة أطلقها الكون المرئي الوليد أو ما يسمى اليوم بصدى الانفجار العظيم. ولكن هذه المرة كانت اكثر دقة مما حققه سلفه الأمريكي التلسكوب الفضائي كوب COBE ndash; cosmic Background explorer سنة 1992- 1990 وهو الحدث الذي ضمن لمصمميه الأمريكيين العالمين جورج سموت George Smoot و جون ماثرJohn Mather الحصول على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 2006. و قدمت مهمة بلانك الفضائية أيضا أدق خريطة للكون تم الحصول عليها على الإطلاق بالإضافة إلى التصحيح الذي أجرته في نسب الطاقة المظلمة، والمادة المظلمة و المادة الاعتيادية في الكون، حيث أثبتت أن الطاقة المظلمة موجودة بنسب أقل من المتوقعة في حين ازدادت نسبة المادة المظلمة و المادة الاعتيادية عن النسب الموجودة حاليا، وسوف تنشر المهمة تقريرا مفصلاً و كبيرا لها في العام 2014، كما قامت مهمة بلانك الفضائية بإطلاق أكثر الخرائط دقة و تفصيلا لأقدم الأضواء والإشعاعات الموجودة في الكون، ما أدى إلى كشف معلومات جديدة حول عمر الكون، ومحتوياته و أصوله. والجدير بالتذكير أن بلانك هي مهمة تابعة لوكالة الفضاء الأوروبية، و تساهم فيها وكالة الفضاء الأمريكية ناسا NASA بدور أساسي من خلال تكنولوجيا الأجهزة العلمية الموجودة في المهمة، و يعمل فيها علماء من الاتحاد الأوروبي، وأمريكا و كندا من أجل تحليل البيانات القادمة من بلانك. حيث يعكف فريق عمل علمي كبير من جميع أنحاء العالم يعمل بجهد هائل على فصل الفوتونات الناجمة عن إشعاعات الخلفية الماكروية الكونية عن باقي الفوتونات التي التقطها بلانك والقادمة من كل مكان في الكون المرئي أو المنظور.

إن أهم إنجاز حققته مهمة بلانك هو إثبات صحة سيناريو الانتفاخ أو التضخم المفاجيء المتسارع والهائل lrsquo;inflation للكون المرئي الذي حدث مباشرة بعد الانفجار العزيم وهو السيناريو الذي يخبرنا أن الكون انتفخ فجأة وبسرعة لا متناهية بعد حدوث الانفجار العظيم حسب ما أكدته نتائج الرصد التي سجلها تلسكوب بلانك الفضائي وكان اقتراح هذا السيناريو قد تم استجابة لثلاث مشاكل عويصة ارتبطت بموضوع التوسع الكوني lrsquo;expansion de lrsquo;univers. ففي لحظة الانفجار العظيم بدا الكون بالمشاهدة متجانساً homogegrave;ne ومتماثلاً أو متناظراً وبدرجة حرارة متماثلة هي نفسها في كل مكان فيه، والحال كان يفترض في الحقبة 370000 بعد الانفجار العظيم عكس ذلك تماماً إذ لم يكن هناك وقت كافي للضوء للانتقال من نقطة إلى أخرى ووضع كل مناطق الكون في حالة توحيد unission، والنقطة الثانية هي أننا لو نظرنا إلى أية منطقة في الكون المرئي فسوف نجد أن المادة موزعة بنفس الطريقة أي أن الكون المرئي أو المنظور يوجد في حالة إزوتروب أو موحد الخواص، أي متساوي الخصائص في جميع الاتجاهات، في حين أن هذا الأمر يبدو مستحيلاً إذا كانت التقلبات والتفاوتات الأولية fluctuations originelles قد ألقيت عشوائياً، وأخيرا أن هندسة الكون المرئي أو المنظور تبدو إقليدية euclidienne فالأشعاعات الضوئية والأجسام أو الأشياء الحرة تنتقل بخط مستقيم بينما تخبرنا نظرية النسبية العامة أن الهندسة الكونية ليست إقليدية بالضرورة، وحتى لو كانت كذلك فهي تنحو لكي تحيد عن ذلك ببطء ولكن على نحو مؤكد. وللخروج من هذا المأزق اقترح العالم الأمريكي آلان غوث Alan Guth سنة 1980 نظرية التضخم الفوري الهائل والمتسارع theacute;orie de lrsquo;inflation، وبموجب هذه النظرية يكون الكون المرئي قد شهد فترة ليست هادئة بل عنيفة من التوسع المفاجيء وفي لمحة لامتناهية في الصغر زمنياً حيث تمدد بشكل مذهل موزعاً كل شيء على نحو متجانس وممدداً الفضاء على شكل مسطح. لم يكن هناك دليل على حقيقة وقوع هذا التضخم وبقي المقترح في حدوده النظرية يتداوله العلماء على نطاق محدود في أوساطهم إلى أن جاءت مهمة بلانك لتؤكد صحة هذا الافتراض النظري الفذ وتحول السيناريو المفترض إلى حقيقة علمية. وقد اكتشف العلماء من معطيات ونتائج تلسكوب بلانك الفضائي نهاية هذه المرحلة التضخمية وبداية مرحلة التباطؤ النسبي ralentissement relativement lente. وعند هذه النقطة الفاصلة تخلت فيها القوة السلبية النابذة أو الطاردة force neacute;gative repulsive التي مددت الكون بسرعة هائلة، عن سمتها الدافعة، وتنازلت للقوى الجوهرية الأخرى الجاذبة عن مهمتها وتحولت بدورها إلى مادة عندما ولدت التقلبات الأصلية تركيبات وبنى الكون المرئي المنظورة اليوم. ولقد أوضحت الخريطة الأولية التي رسمت للكون وفق معطيات بلانك أن الكون يتمدد حالياً بسرعة أقل من تلك التي اعتقدها العلماء، وأن عمره هو 13.8 مليار سنة و هو عمر اقدم بمائة مليون سنة من التقديرات السابقة. و توضح البيانات التي تم الحصول عليها أن الطاقة المظلمة موجودة بشكل أقل من التقديرات السابقة، و كذلك تتواجد المادة المظلمة و المادة العادية في الكون بشكل أكبر من التقديرات السابقة. والحال أن المادة المظلمة عبارة عن مادة غير مرئية و لكن يمكن كشفها من خلال آثارها الثقالية، في حين أن الطاقة المظلمة تقوم بدفع الكون للتوسع. و إن طبيعة أو ماهية كل منهما تبقى غامضة.

ويبقى هناك لغز دائم يبحث عن جواب وهو: ما الذي أحدث أو تسبب في حدوث التضخم الهائل؟ هل هناك آلية أو ديناميكية كامنة سابقة للحدث تسببت في حصول التقلبات والترجرجات؟ قادت الدراسات العلمية الدقيقة للبيانات الفلكية الجديدة إلى تأكيد حصول شيء ما في اللحظة 10-35 بعد الانفجار العظيم. وهذا الشيء الغامض هو الذي تسبب في حدوث التضخم وهو عبارة عن جوهر أو ماهية غامضة substance افتراضية وضعت نظرياً لتفسير التضخم وقد قامت هذه الماهية الغامضة أو المجهولة الهوية بدور القوة النابذة أو الطاردة التي أدت إلى حدوث التوسع المفاجيء والعنيف. المعلومات التي وفرها تلسكوب بلانك الفضائي عن هذه الماهية الجوهرية الغامضة تقول أنها سبقت المادة وبتفككها تحولت إلى مادة مرئية. أي إن التضخم هو المصدر la source لكل ما ظهر في الكون المرئي أو المنظور فيما بعد. ولكن ماهي طبيعة هذه الماهية الغامضة الأولية السابقة للمادة؟ لا أحد يعرف يفترض علماء أنها يمكن أن تكون هي الطاقة المظلمة أوالداكنة أو المعتمة أو السوداء، التي تقوم الآن بعملية توسع الكون وتباعد مجراته بعضها عن البعض الآخر. كانت تلك الماهية هي القوة الأقوى في الكون لكنها تنازلت فيما بعد عن بعض امتيازاتها للثقالة أو الجاذبية وللقوى الجوهرية الكونية الثلاثة الأخرى الكهرومغناطيسية والنووية الضعيفة والنووية الشديدة. وقد يضطر العلماء على ضوء المعلومات الجديدة إلى اقتراح ثابت كوني جديد هندسي والبحث عن طرق جديدة للبحث والتقصي. يتبع