يدور الزمان دورته، ولا تَنفكُّ أحداثه الكبرى تتجدّد وتحدث مراراً، فتُرتَكب المآسي ذاتها، وتُقترف الفواجع نفسها، ولم تتعلم الإنسانية بعد كيف تنأى بنفسها عن تلك الكوارث، ولم تهتَد إلى سُبل تجنُّبها، وكأنَّ ذواكر الأمم في أمثال هذه الأمور قصيرة الآماد والآجال، أو أن رغبات الإنسان وجموحه يُسيطر عليه فيُغشي بصره وبصيرته، وتغلق عليه وسائل الفهم والقراءة الدقيقة للأحداث.

تتراءى هذه الأفكار في خاطري، ونحن على بُعد ساعات من الذكرى الـ 94 للاجتماع الأخير من اجتماعات تحضير معاهدة استسلام ألمانية بُعيد الحرب العالمية الأولى، في قصر فرساي الشهير في باريس الفرنسية، والذي حضره أكثر من مئة وثمانين سياسياً ومسؤولاً ألمانياً ليقدموا قرابين الطاعة والاعتراف بالهزيمة المُرة العَلقم، ليُنقذوا ما يمكن إنقاذه من بلادهم، ويجنبوها آثار كبرياء الحلفاء وصَلَفهم والدَّمار المحيق بلادهم إن هم استمروا بالحرب.

أخضع الحلفاءُ الوفدَ الألماني لسلسلةٍ من الإهانات والإذلال، وكان منها أن أسكنوهم ذات الفندق الذي استقرَّ به الفرنسيون الذين فاوضوا بسمارك على شروط الصُّلح في عهود الانتصارات الألمانية، وهذا هو الزمان قد استدار، وأظهر أن الفرنسيين لم ينسُوا لهم ذلك الموقف. على أنَّ بنود المعاهدة ما كانت سوى وثائق اتهام واستسلام من قِبَل ألمانية، بأكثر من كونها تسوية سلام بين طرفين متقاتلين، وحُمِّلت فيها ألمانية جرائم الحرب العالمية وأسبابها ونتائجها، وأنَّ بقيَّة الدُّول إنَّما خاضوا الحَرب ضدّها من منطلق الدِّفاع عن النُّفوس والأوطان، وهكذا يكتب المنتصرون فصول التاريخ، ويذيّلون خواتيمه بتواقيعِهم.

انتهت تلك الاجتماعات في 7 مايو/أيار 1919م، واستغرق الأمر على القادة الألمان حوالي الشهرين ليبتلعوا الهزيمة ويقرُّوا بها، وتمَّ توقيع الاتفاقيات في 28 يونيو/حزيران 1919م، ومن ثَم يتمَّ تعديلها في 10 يناير/كانون الثاني 1920م، لتتضمَّن الاعتراف الألماني بمسؤولية الحرب ويترتب عليها كامل التعويضات، ولقد وصلت الموافقة قبل 90 دقيقة من زحف قوات الحلفاء تجاه برلين، وبذلك أنقذوا بلادهم من أخطار وكوارث، الله وحده كفيل بعلمها.

ولأن العدالة خير من الانتقام، وأن الظلم ظلمات، وأن عواقب الصلفِ الذلُّ والصغار ولو بعد حين، فلقد كانت نتائج هذه المعاهدة شؤماً عاماً على العالم بأسره، بل وحل شؤمها على مهندسيها الأساسيين بخاصة، وهم كليمنصو ولويد جورج وويلسن، فهزموا جميعاً في أول انتخابات أعقبت المعاهدة، ونَحَّتهم شعوبهم عن الحكم، وأمَّا ألمانية فقامت من جديد ولكن تحمل في ضميرها حقداً على تلك الدول، استغرق ربع قرن فحسب ليعيد إنتاج نفسه في حرب عالمية ثانية، دمّرت ما تبقى من البلاد، ولم تنتهِ إلا بملايين الضَّحايا من العسكر والأبرياء.

في غضون ذلك، كانت تُرسَم في المشرق العربي خرائطُ وحدود جديدة، قام بها وعلى اقتسامها المنتصرون فحسب، بدءاً بوعد بلفور، وسايكس بيكو 1916م، وسان ريمو 1920م، والتي بُنيت على منطق القوة والظلم والإكراه، ولم تراع فيها مصالح الشعوب والأعراق والأمم، بل جُيرت جميعاً لتصبّ في خندق الطرف الأقوى، ولئن احتاجت ألمانية إلى خمس وعشرين سنة لتعيد رسم quot;فرسايquot; جديدة، فإن بلاد المشرق قد أخذت وقتاً أطول بكثير اقترب من قرن كامل، لتقوم أسباب نقض هذه الخرائط، ومن ثم إعادة بنائها من جديد، وأسباب هذا التأخير كثيرة جداً يحتاج البحث فيها إلى غير هذا الموضع.

ومن المؤكد أننا نعيش اللحظات الأخيرة في العمر الافتراضي لهذه الخرائط القديمة، وأنَّنا على أبواب مرحلة جديدة تطوي الصفحة القديمة إلى غير رجعة، وإنَّ النَّاظر اليوم ليلمح بوضوح خرائط جديدة ومعاهدات طازجة تطبخ لمنطقتنا، وكأن التاريخ يعيد نفسه، وقد اشترك في رسمها وتأطيرها القوى التقليدية المعروفة، بالإضافة إلى مرجّحات جديدة مؤثرة، منها حراك الشعوب ويقظتها، والقوى الدولة الناشئة، وهنا تكمن المفارقة، والأيام القادمة حبلى بتلك الأجنة، وإنَّها وحدها من سيكشف عن عدالة تلك الخرائط وجودتها من سوئها وقبحها. ولكن يكفي المتأمل أملاً أن الخرائط القديمة إذ فرضت كانت شاذة عن الواقع الجغرافي المناطقي والحقائق البشرية الديمغرافية العرقية بل والأيديولوجية، وظلت غريبة مستهجنة عن ضمائر الناس ووجدانهم، فما راعت فيهم إلَّا ولا ذمة، وما جنت منها إلا دماراً وشرذمة وتفرقاً، وكانت عقبة كأداء في وجه تحرر الشعوب ووحدتها وتماسكها واستقرارها، والسؤال الكبير، تُرى هل سيأتي يوم نرى فيه من يندب سايكس بيكو وأخواتها، ويتغنى بأيامها، ويستعيد ذكرها؟

@anassarmini