يشكل التبجيل أساس العلاقة التي تربط الزعيم أوجلان بأتباعه. لذلك لا تندرج علاقة الحزب به في إطار العلاقة السياسية، بل و إنما ضمن إطار التقديس المفترض في كل مرتبية كهنوتية. قرارته لا تناقش. و لا يدخل كلامه مجال الصواب و الخطأ. فقوله ليس كلاما، بل نص ٌ محض. نص بمثابة التنزيل. هذا التقديس لزعاموية أوجلان فردته و أسطرته في مخيال مريديه. و ههنا مرتع قوته و تسلطه. فقد استثمر الحرمان الكردي في أقسى مناطق القمع و الفقر الكرديين، مستخدما خطاب العاطفة و الشعارات المناقضة للواقع القمعي. بالقول أنه سيؤسس كردستان الكبرى داخل المناطق الكردية المقموعة و عبر تسليح الشباب الكردي و الفئات الشعبية غير المتعلمة في معظمها، حيث يشكل الإحساس بتبخيس الذات مصدرا انفعاليا جامحا. مستعد للإنخراط في أي شيءـ و بشكل خاص السبل المباشرة للعنف لأجل استعادة كرامته المنتهكة بطريقة متهورة.

و على الرغم من أنني لست فاعلا في المجال التواصلي إلا بما يقتضيه الغياب عنه. إلا أنَّ البيان الصادر عن تجمع نسائي بمناسبة ميلاد أوجلان.* يستدعي منا أن نوضح موقفنا الواضح من كل حركة استعبادية في العالم. سواء أكانت تلك الحركة كردية أم غير ذلك. يشكل الإضطهاد مجال نمونا نحن الكرد، لذلك نتضمن على تلقائية برية نحو حريتنا. تلقائية عميقة لأن نلتف حول حقنا في التهوه / هويتنا نحن بالذات. تلقائية بمثابة جذور غير مرئية يستحيل اجتثاثها، حيث يشكل المكان اغترابنا المطلق. فنقيم فيه و نغادره قسرا، دون أن نهجره أبدا. أن تلد كرديا، يعني أن تلد مستلبا، مستلب الحق في أن تكون ما تكونه، و أن ترتبط بما تريد. فننمو في الإعاقة و ضدها بما يجعل المجال الاجتماعي معقدا. إذ علينا أن نحافظ على بقاءنا العضوي من خلال التفوق على شروط بقاء النوع عضويا. و إلا لانتهت حكايتنا منذ أمد بعيد. و ذلك بحكم الطبيعة المركبة للسياسات التي وضعت لإنهاء هذه الهوية المتداخلة في تكوينها مع أصلها. لذلك صارت نزعة الحرية جزءا من السيمياء الاجتماعي المطبوع في جسد الكردي.هذا الإرتباط التلقائي بالحرية، هي الخاصية الجوهرية التي يعتبرها آيرك فروم في quot; الخوف من الحرية quot; نواة ً لتحصين الإنسان وجوديا من تحويله، عبر استثمار يأسه، إلى إنسان آلي Huomanautomation. حيث يبقى حيا بيولوجيا و يموت ذهنيا و انفعاليا فيصبح :quot; أرض خصبة للأغراض السياسية و الفاشية quot; ( 1 ).

تلقائية ارتباطنا ككرد بالحرية، حافظت علينا إثنيا و كذلك مدنيا من كل و أبشع تقنيات الإبادة التي استخدمتها الدول التي اغتصبت أرضنا و لم تخجل ثقافيا من محاولة جعلنا أجانب في نظرة الشعوب المجاورة لنا، لتمهد بذلك، تسوغ جغرافيا إلحاق ترابنا بتربتهم و جعلنا غرباء في حقولنا. لذلك كانت هذه الشعوب صامتة و لم تشعر يوما بتأنيب ضميرها إلا فرديا جراء ما قامت به حكوماتها من تنهيج للكراهية ضدنا. فكيف لنا أن نتخلى عن حريتنا الداخلية عبر الإجهار بأننا قُصِّر في حضور و غياب الراشد الوحيد / الزعيم المطلق؟ هذا التخلي عن الحرية الداخلية، هو الفاعل النفسي لاعتبار الطواعية قيمة ايديولوجية تقتضيها ضرورات التنظيم الحزبي؛ ضرورات / دارات مسننة تتدافع لتشغيل آلة إنتاج الخرافة المتعلقة بألوهية الزعيم و بفرادته التي بدونها سيكون مصير الأعضاء الحزبيين / و البشرية أيضا في خطر محدق.

و الخطر المحدق يستدعي إجراءات طقسية كهذا البيان الذي قدمته تنظيم نسائي و كذلك كالشعار الذي يتفرد به حزب العمال الكردستاني / be serok jyan nabe الحياة غير ممكنة بدون الزعيم /. إنها شعائر ضرورية لأيجاد التسلط و لجعل هذا التسلط مطلقا. لذلك تمكن أوجلان من ربط كل التفاصيل بشخصه، كونه يتجاوز المدار البشري في ذهنية أتباعه الذين يخافون من الإهمال بطريقة مرضية حددها فرويد بالـ الهوس الوسواسي، الذي يعقد قرانا بين الشعائر المقدسة و الأفعال التسلطية التي تلتقي في الخوف : quot; الخوف المنبثق عن الضمير في حال الإهمال quot; ( 2 ). فتصبح الإرداة خاملة بدون البركة السحرية للزعيم / الصنم. لذلك لا تجد عند هذا الحزب مثقفين حقيقين. فكل الأعضاء الحزبيين هم أصداء لكلام الزعيم، و إعادة إنتاج لصورته في ذاتهم المختفية نظرا لضرورة أن يكون العضو الحزبي قاصرا. و كل المناسبات و البروبوغندا الحزبية و المطبوعات و الندوات و الفن و العلوم... كلها تترجم لنا الزعيم و تنحدر من عقله الذي يلحف،كما هو الرب بكل شيء.

هذه الطريقة المريدية أوجدتها الديانة الشيوعية في فترتي لينين و ستالين. اللَّذان طردا الإنسان الحر من مجال نفوذهما، و ربطا المعيارية الفنية و العلمية بقالبيتهما الذهنية، فكتب لينين في الفن و تحولت مقولاته التي هي خلاصة السذاجة، إلى قوانين لتركيب المنظور و لكسره أيضا. و كذلك فعل ستالين في الوراثة السياسية؛ بجعله للنظرية البيولوجية متفقة مع التبيؤات الحزبية. و تفشت هذه الوثنية في الأحزاب الشبيهة. فظهر كاسترو و جافييز و أوجلان و غيرهم. فقائمتهم طويلة لدرجة الرعب. تشبه الإمارة المتخيلة لحزب العمال الكردستاني معتقل كوريا الشمالية. حيث لا يوجد هناك حضور لله بالمعنى اللاهوتي في المجتمع، بل فقط زعيم / إله. فالسيطرة الكاملة التي يمتلكها الزعيم على أتباعه، تشلهم كليا. و المآل الدموي الذي ينتهي إليه معارضوه، تشكل صورة لقدرة الزعيم المطلقة على إفناء معارضيه. لذلك يرتفع الزعيم على المجتمع و يشرف عليه من مكانه المتخيل في الأعلى. في صوره الضخمة و المتعددة و الموجودة على و داخل كل شيء. لاحظ في الفلم التسجيلي المتعلق بكوريا الشمالية.

يرفض المرافق الحزبي/ المراقب، يرفض أن يتم تصوير تمثال الزعيم بوضعية الإستلقاء. فيضطر المصور أن يصور و هو منحني ليخرج بنصف صورة لصنم هوبل/ كيم أيل. و بما أن كل ما يصدر عن الزعيم هو آية من آيات الحقيقة. يتوقف الرفقاء الحزبيين عن التفكير بما يقوله القائد، و يتفرغ قسم منهم لترجمة هذا الكلام / الكتاب، إلى لغات عدة. لكن قبل ذلك. يتوسط بين كلام الزعيم و بين الجماهير طبقة مشايخية / ملالي يبسطون كلام الزعيم للجماهير. فكلامه، و لتكتمل طقوس قدسيته، لا يجوز أن تصل منه مباشرة إلى الجماهير. لئلا تفقد تعاليها البشري فتصبح كلاما لرجل منهم.

على الجماهير أن تنتظر و أن تعيش الإنتظار لكلام القائد، حتى يختمر في ذهنها و في نفسيتها نظام تقديسه، بما فيها شعائر تلقي هذا الكلام. هذه الصورة المزدوجة تجعل من الزعيم بشريا غائبا أو محتجزا، و إلَّهيا حاضرا و مراقبا و متحكما. لذلك يقوم عمل هكذا نظم على تقويم الجسم. الجسم المطواع للمريدين. و جسم الآخرين المختلفين، بالتنكيل بهم و بتصفيتهم. وقبل كل شيء، جسم الزعيم باتجاهين: مادي بالعمل على تعظيم صورته و تحويلها إلى رمز / وثن. وروحي بممارسة شعائر و طقوس غير مبررة متعلقة بميلاده أو مماته. و بتفريد كلامه إلى جمل / آيات و قوانين، يُعمل بها في ترتيب الحياة العامة و الخاصة. لذلك فحتى الذين ينتقدون هكذا تنظيمات، يلجأون كثيرا إلى القوانين المتناقضة التي وضعها الزعيم، لئلا يُفهم كلامهم بأنه مسٌّ لقدسيته. لذلك تنعكس هذه الصورة المزدوجة للزعيم حتى في خطاب المعارض له. لأن الزعيم يحمل المملكة في جسمه. فتعوض صورته رمزيا علم الدولة و اسمها، بل و حتى مآلها. ليكون جسمه بذلك، و كما حلله quot; كانتور ويتز quot; بأنَّ : quot; جسم الملك جسم مزدوج بحسب اللاهوت القضائي المتكون في القرون الوسطى، لأنه يتضمن عدا العنصر المؤقت الذي يولد و يموت، عنصرا آخر، الذي يبقى عبر الزمن كحامل جسدي للمملكة. علما بأنه غير مملوس ( 3 ).

لقد قدمت كوريا الشمالية عبر بثها لصور النحيب الجماعي القسري في جنازة كيم جونغ أيل، معادلة الإستعباد الهمجي لشعب مستعبد منذ انتهاء الحرب الأهلية الكورية 1953. و قد كانت قناة ناشيونال جوغرافيك قد عرضت مرات عدة فلما تسجيليا عن تجربة طبيب صيني عالج ألف كوري شمالي من العمى؛ حيث ابتهل الجميع عند نجاح العمليات و استعادتهم لقدرتهم على البصر بعد إفراغهم من الرؤية، ابتهلوا بطريقة إذلالية لصورة الزعيم/ الإله الذي أعاد لهم البصر.

هاتان الصورتان شرحتا الموقف الكوري الشمالي بدقة من علاقتها كنظام بالشعب الذي تحتجزه، بأنها لن تترد أبدا في إبادتهم جميعا، إن فكر أحدهم بالخروج عن سراط القائد. لذلك لجأت إلى استراتيجية الإبادة بناءا على الشبهة. مجرد الشبهة و ليس الجنحة، الشبهة الفردية فقط، كافية لاجتثاث عائلة كاملة من الوجود. فظهرت معسكرات الإعتقال بعد تحول كوريا الشمالية إلى أرخبيل اعتقالي خالص. فاختفت بذلك المعارضة من ذهن الإنسان الكوري، و حلت محلها الضرورة الإستعبادية/ ممارسة طقوس الطواعية للحصول على الحماية الحزبية/ الإلهية. و تحلل الدماغ إلى مجرد وسيط كيميائي/كهربائي، لتمرير الأوامر إلى أعضاء الجسد. فتوقف عن إنتاج الوعي، لأنه كإنسان آلي لا يعكس في سلوكه إلا البرمجة التي وضعت فيه.إبادة المشتبه بهم لإنتاج العبرة عند غير المشتبه بهم، وفرّت لنظام كوريا الشمالية الأرضية النفسية / الذعر / لانتهاك إنسانية الشعب و فرض العبودية عليه. تتقاطع استراتيجية حزب العمال في موضوع إنتاج العبرة مع النظام الكوري، لكن بأدوات مختلفة، كالإغتيال و التنكيل و التخوين و الإشاعة الأخلاقية. و هي تقنيات تتوجه ضد كل مخالف لمنهج الزعيم، سواء أكان ذلك الشخص من أعضاء الحزب أو من معارضيه أو من منتقديه من غير المعارضين له و غير المنضون في تنظيمه. المهم هو منع التفكير بانتقاد الزعيم أو حزب الزعيم أو علم الزعيم أو مجلس الزعيم..إلخ. لذلك لا توجد حصانة لمن ينتقد المقدس. العقاب سينزل بذات القساوة على الجميع، الرفقاء و الغرباء سواسية. و تحزب الأعضاء ليس ضمانة لهم. بل و إنما مدى طواعيتهم.

و هذه الطواعية لا يمكن استحصالها من الفئات المتمكنة ذهنيا من التفكير، بل ضمن و من خلال الفئات الحماسية المتألمة و الأقل تعلما أو عند نصف المتعلمين. لذلك يتقمص المنضوي تحت مظلة الزعيم خطابه و صورته و يستنسخه في مجتمعه بتعصب حاد. بحيث يستحيل أن تحاور أحدهم و تجعله يفكر بما يقوله، و ليس بإقناعه بأن ما يقوله قد يكون غير صائبا. بل مجرد محاولة عكس عقله لأن يتأمل خطابه هي محض عبث. فكيف بجعله يفهم أن ما يقوله خطأ. فخطابه مستنسخ من الأصل المقدس. لذلك، من غير المجدي إقناعه بأن كلامه الذي هو كلام المتكلم/ النص على خطأ. هذه العلاقة بين الزعيم الراشد و المريد الحزبي القاصر. تضعني أمام تحليلات لا أعتقد بصوابيتها، كدراسة quot; كوجييف quot; حول جدل السيادة و العبودية التي اعتقد فيها بأن بعض الناس وجدوا ليترأسوا غيرهم من الناس الذين وجدوا ليخضعوا لغيرهم من الناس.

أيمكن أن يكون الأمر بهذه البساطة. فالطواعية و الكراهية و الخضوع العاطفي الجماهيري للسلطة، أمور مصطنعة. و مقدماتها التربوية تندرج في إطار إصطناعها. كحرمان مناطق معينة من فرص النمو المتوازن، الذي يشمل التعليم و الصحة و العدالة و الاقتصاد و الاختلاط بين الجنسين...إلخ من تقنيات الإعاقة القسرية. و هي استراتيجية تتبعها الحركات الدينية المعاصرة، التي تمنع نمو مشاريع اقتصادية في مناطق نفوذها، لتمولها عبر مشاريعها الخيرية التي تغذي طواعية المستفيدين مرضيا من هذه الخيرات غير المثمرة اقتصاديا. بحيث تحافظ عليهم هذه الخيرات في وضعية الرضيع الدائم بالتعبير الفرويدي؛ إذ لا جدوى ممكنة من نظام تمويل غير مرتبط بقيام عمل ملموس ينعكس فيه الجهد الذهني و الفيزيائي معا. و هي استراتيجية معتمدة لدى حزب الله اللبناني في الضاحية الجنوبية بالاعتماد على التمويل الأيراني. و كذلك لدى الإخوان المسلمين في مصر. إذ يدخل تاريخ تربية الأجساد/ تقويمها على الإستجابة لمنبهات محددة في تاريخ إنتاج هذا الجسد. سواء على المستوى الفردي أو على المستوى المجتمعي. و قد حدث ذلك من قبل المؤسسات الدينية و الحزبية و حتى الجامعية. لذلك يشكل ظهور هذا البيان من تجمع نسائي حزبي، مقدمة تربوية/ طقسية لتصدير خطاب الطواعية في يوم ميلاد أوجلان. ولكونه صادر عن تجمع نسائي، فإن التباسه مبالغ فيه. و إن كان هناك تفسير منطقي لهذه النزعة الغريبة عن طبيعتنا، نزعة الخضوع المرضي لقائد أوحد. و مقايضة حريتنا بحريته. فإنه ذاك الذي تقدم به فرويد منذ عقود في تحليله لسايكولوجيا الجماهير. في تلك العلاقة النوامة الإستسلامية للجمهور بزعيمه. إنه خضوع استنهاضي لقيم البدائية. للعشيرة البدائية المأخوذة بهيبة الأب البدائي الذي يهيمن على أبنائه القصر.


هوامش
1ـ فروم. آيرك. الخوف من الحرية. ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد. المؤسسة العربية للدراسات و النشر. 1972. ص 204
2ـ فرويد. سيغموند. إبليس في التحليل النفسي. ترجمة جورج طرابيشي. دار الطليعة. الطبعة3. 1999. ص 51.
3ـ فوكو، ميشيل. المراقبة و المعاقبة. ولادة السجن.. ت: علي مقلد. مركز الإنماء القومي.بيروت 1990. ص. 66.
*البيان موجود على الرابط التالي:
http://ar.firatajans.com/news/akhr-l-khbr/thd-str-snj-l-mn-lrb-mn-nysn-ywman-ltlhm-lmr-m-lqyd.htm