من الأمور المثيرة للحيرة في الشأن السوري ما يتعلق بمساندة إسرائيل للمساعي الدبلوماسية والعمليات العسكرية التي تهدف إلى إسقاط نظام بشار الأسد. أسئلة كثيرة تقفذ إلى الذهن كلما أظهرت إسرائيل انحيازاً لا لبس فيه للقوى التي تقاتل نظام الأسد. إذ هل يعني الموقف الإسرائيلي أن حكومة بنجامين نيتانياهو لا تعي، كغيرها من الحكومات الغربية، مخاطر البديل الإسلاموي الذي صار الجانب الأقوى ميدانياً والأعلى صوتاً والأكثر نفوذاً بين القوى المسلحة التي تسعى للوصول إلى السلطة في سوريا؟ هل يعول أو يعمل الإسرائيليون على إحلال نظام الأسد بنظام إسلامي مشابه للنظام الذي يحكم مصر اليوم والذي يبدو كما لو أنه لا يقلق مضاجع الإسرائيليين كثيراً؟ هل يعتمد الموقف الإسرائيلي على وجود ودعم حالة التناحر الطائفي داخل حدود جارتها الشمالية حتى تبلغ سوريا الحالة التي لا تقوم فيها قائمة للدولة، كما في الحالة الصومالية، بعد أن تفقد مصادر قوتها ومقومات وحدتها. أسئلة كثيرة تبحث عن أجوبة هذه الأيام خاصة مع دخول الطرف الإسرائيلي بطريقة مباشرة في الصراع السوري.

منذ بداية الحرب الأهلية في سوريا كان الموقف الإسرائيلي منها يثير دهشتي اقتناعاً مني بأن نظام حكم بشار الأسد أقل خطورة على وجود إسرائيل من أية نظام إسلاموي إخواني الفكر أو قاعدي المنهج. لم أستطع فهم الدعم الإسرائيلي المعنوي وربما اللوجستي للقوى المعارضة للأسد، فتهديد القومية التي يرفع شعارها النظام السوري لإسرائيل لا يمكن مقارنته أبداً بالتهديد الذي يمكن أن يشكله الجهاد الإسلاموي الذي سيصبح شعار الدولة أو الدويلات التي يمكن أن تخلفها الحرب الأهلية السورية. ولعل مقارنة صغيرة بين ما قام به نظام السوري وما قامت به الحركات الإسلاموية في القرون الثلاثة الماضية يؤكد على أن الأسد كان أقل خطورة على وجود إسرائيل من الحركات الإسلاموية الإخرى كحزب الله وحركة حماس.

فالنظام السوري، الذي يصدع أدمغتنا بالوحدة العربية والصمود والتصدي والكفاح والمقاومة، والذي فقد في حرب 1967 جزءاً مهماً من أراضي بلاده، وهو هضبة الجولان، لم يسع منذ عام 1973 لاستعادته. لم يدخل الأسد الأب ولا الأسد الأبن في حروب مع إسرائيل طوال العقود الأربعة الماضية ولم يشكل أية تهديد ولو صوري للوجود الإسرائيلي. كانت هناك حالة من الهدوء التام، إن لم تكن حالة من السلام البارد، بين إسرائيل والنظام السوري. بل أن النظام السوري لم يشارك أيضاً بإيجابية في عملية السلام التي كانت ستعيد لسوريا ترابها، حتى أنه بدا للكثيرين أن النظام السوري تنازل للأبدعن هضبة الجولان. اكتفى نظام الأسدين بالبلاغة والمراوغة والخطب الرنانة ودغدغة مشاعر القوميين واليساريين العرب من دون أن يقوم بأية محاولة جدية لاستعادة أراضيه المحتلة.

في المقابل فقد كانت ولا تزال قوى إسلاموية كحزب الله في جنوب لبنان وحركة حماس وجماعة الجهاد في قطاع غزة كالأشواك الحادة الموجعة في حلق إسرائيل، وهو ما كلف إسرائيل خسائر بشرية ومادية ومعنوية هائلة. فمنذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي لم يَدَع حزب الله إسرائيل تهنأ بسيطرتها على الشريط الأمني الحدودي بجنوب لبنان عبر عمليات انتحارية ضد جنود إسرائيليين وهجمات صاروخية طالت مدناً إسرائيلية كبرى في منطقة الجليل بشمال إسرائيل. وبعد سنوات من المواجهات غير المجدية بين الطرفين رأى إيهود باراك، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، الانسحاب من الأراضي اللبنانية عام 2000 لتفادي المزيد من الخسائر. تكرر نفس الأمر مع حركة حماس وشركائها الإسلامويين في غزة طوال العقود الثلاثة الماضية، حيث لم تَكُف الحركات الإسلاموية في غزة عن شن هجمات صاروخية وعمليات انتحارية وغزوات إرهابية في قلب إسرائيل أسقطت العشرات من الضحايا وكلفت الميزانية الإسرائيلية أموالاً طائلة. وقد دفعت المواجهات المتكررة بين إسرائيل والحركات الإسلاموية، التي لم يكن من ورائها طائل، رئيس وزراء السابق إرييل شارون لاتخاذ قرار الانسحاب من غزة من جانب واحد عام 2005 بغرض وقف نزيف الدماء والمصادر والأموال الإسرائيلية.

ليس هناك شك في أن هناك حجج تستند عليها إسرائيل في دعمها للمساعي الجارية لإسقاط نظام الأسد. لا يغفى على أحد أن النظام السوري دعم كثيراً وبشكل مباشر الحركات الإسلاموية المناهضة لإسرائيل كحزب الله وحركة حماس وغيرهما حتى أن الأراضي السورية كانت بمثابة الجسر الدائم لنقل الأسلحة الإيرانية لحزب الله وكانت الحضن الدافيء لقادة حركة حماس. ولكن هل يعني هذا أن إسرائيل ترغب في إسقاط الأسد للتخلص من جسر الأسلحة هذا والتخلص من قادة حماس؟ لست أعتقد أن إسرائيل بهذه الدرجة من الحماقة التي تدفعها للعمل على معاقبة نظام الأسد على تأييده لحزب الله وحركة حماس عبر فتح جبهة أكثر خطورة في سوريا، إذ من المؤكد أن الإسرائيليين يعون أنه حال سقط نظام الأسد فإن بديله هو نظام إسلاموي قاعدي متطرف سيكلفهم الكثير، وأنهم يدركون أن البديل الإسلاموي سيكون أكثر خطورة على دولتهم من حزب الله وحركة حماس ونظام الأسد مجتمعين.

ربما تقود هذه المعطيات والفرضيات البعض للاقتناع بأمرين؛ إما بأن إسرائيل تتحالف مع الإسلاميين لإسقاط نظام الأسد مقابل التعايش السلمي، أو بأن إسرائيل تسعى لإسقاط سوريا وليس الأسد. الأمر الأول مستبعد تماماً لأن إسرائيل لا يمكن أن تقع في فخ الإسلامويين حتى ولو كانوا على شاكلة المتظاهرين بالاعتدال كمحمد مرسي. وحتى لو قبلنا بأن الإسلامويين الجهاديين المنتشرين بسوريا يمكن أن يتعاونوا مع من يعتقدون أنه quot;الشيطان الأعظمquot; لإسقاط شيطان صغير، فإن التاريخ والجغرافيا يدفعان في اتجاه استحالة وجود تحالف إسلاموي إسرائيلي. ولعل هذا يقودنا إلى الاعتقاد بأن الأمر الثاني هو الأمر الأكثر واقعية باعتبار أن إسقاط الدولة السورية سينتج عنه دويلات صغير ضعيفة وفقيرة ومتناحرة.

من المؤكد أن الهجمات الأخيرة التي قامت بها إسرائيل مؤخراً ضد أهداف في سورية تأتي في هذا الإطار. ومن الملاحظ أن الهجمات التي هدفت إلى إضعاف جبهة الأسد جاءت بعد تقارير أشارت إلى استعادة الجبهة لبعض من تفوقها وتحقيقها بعض التقدم في ميادين القتال. الهجمات هنا إذن جاءت ليس لإنهاء نظام الأسد، ولكنها جاءت لإعادة التوازن الميداني بين الأعداء بغرض مد أمد القتال. ومن المنتظر أن تزيد إسرائيل من هجماتها ضد قوات النظام السوري إذا ما استمر الأسد في تحقيق انتصارات ميدانية على أعدائه. غير أنه على إسرائيل أن تعي أن خيار اسقاط الدولة السورية والتقسيم غير مضمون العواقب ولن يكون في صالحها. فالتعامل مع عدو واحد ولو كان قوياً خير من التعامل مع عدد من الأعداء حتى ولو كانوا ضعفاء.

وفي النهاية هل يمكن لأحد أن يلقي باللوم على إسرائيل في حال تفتتت سوريا إلى دويلات صغيرة؟ بالطبع لا. إسرائل، كغيرها الدول، تسعى للحفاظ على وجودها عبر القضاء على أعدائها. اللوم كله يقع على الأنظمة والأيديولوجيات والمعتقدات التي ابتليت منطقتنا بها والتي تقمع الحريات وتُحَرِّم الحقوق وتقضي على الأخر وتمنع الشعوب من العيش في سلام. لقد أفسد الأسدان سوريا طوال العقود الأربعة الماضية، واليوم يكمل المتطرفون الإسلامويون المهمة وبغباء منقطع النظير حيث يقومون بإسقاطها وتقسيمها والقضاء على وجودها. واحسرتاه على سوريا التي كانت منارة للحضارة والثقافة والفنون والتعايش والجمال والإبداع.


[email protected]