منذ أن أجرت الحكومة الملكية تعدادها الأخير في عام 1957م لم يجر تعدادا عاما للسكان يقنع كافة مكونات الشعب العراقي بنتائجه، فقد استخدمت كل الأنظمة التي حكمت هذه البلاد سطوتها وسلطاتها من اجل تشويه الحقائق عن حجم مكونات هذه الدولة، العرقية والقومية والدينية والمذهبية، وتعرضت المجتمعات العراقية نتيجة تلك السياسة إلى أبشع أساليب الاستلاب وإلغاء الهوية وخاصة القومية، كما حصل للكورد والتركمان والآشوريين والكلدان، في عمليات التعريب وما أطلق عليه بقانون تصحيح القومية المثير للسخرية، والذي اغصب مئات الآلاف من الأهالي على تغيير قوميتهم إلى العربية، بل وصلت الجريمة إلى التغيير الديموغرافي الحاد الذي تسبب بترحيل آلاف مؤلفة من السكان الكورد وتشتيتهم في مناطق عربية أو بعيدة عن مواطنهم مقابل استقدام آخرين من القومية العربية إلى تلك المدن والبلدات التي شملتها عمليات التعريب مثل كركوك وسنجار والشيخان وخانقين ومخمور وسميل وسهل نينوى وبلدات أخرى في ديالى وصلاح الدين، إضافة إلى تمزيق خرائط المحافظات ورسمها من جديد على أسس عرقية أو مذهبية كما حصل في محافظات كركوك وصلاح الدين والنجف والرمادي وكربلاء وبابل.

لقد أدت هذه العمليات إلى إشكاليات اجتماعية معقدة والى تشويهات يدفع العراقيون جميعا دون استثناء ثمنها، سواء الذين رحلوا أو الذين استقدموا للسكن بدلا عنهم، وما يجري اليوم انعكاس لتلك التداعيات التي سببتها عمليات التشويه والإلغاء لحقائق حجوم مكونات المجتمعات العراقية من كل النواحي الدينية والمذهبية والقومية والعرقية، بما يعطي صورة واقعية عن شكل تكوين هذه البلاد والمشتركين في العيش على أديمها.

ومع سقوط النظام السياسي الشمولي الذي حكم البلاد حقبة طويلة ذهب الناس إلى تأملات البديل الذي سيعمل على معالجة كل تلك الجروح المتقرحة في نسيج المجتمعات العراقية والمزاج العام للأهالي سواء هنا في كوردستان أو في بقية أقاليم ومحافظات البلاد، وقد وضع عدة خرائط طريق لحل بعض تلك الإشكاليات وكان في مقدمتها المادة 58 من قانون إدارة الدولة ومن بعده المادة 140 من الدستور العراقي الدائم، وفي كلتا المادتين آلية لو تم تنفيذها بمهنية ومواطنة عالية لنجح العراقيون في حل أهم المعضلات التي ورثوها من الأنظمة السابقة.

إلا أن ما حصل وما يزال يحصل رغم كل التأكيدات على الحل هي التسويف والمماطلة في كسب الوقت ومضاعفة ملفات الفساد المالي وإبقاء البلاد تحت طائلة الصراع بين الادعاءات في حجوم المكونات وحقيقة وجودها، لغرض فرض مزيد من الهيمنة لطرف على طرف آخر بحجة الادعاء بالأغلبية سواء على مستوى البلاد أو في المحافظات بعيدا عن إجراء تعداد عام للسكان يظهر فيه بجلاء حجم كل المكونات العراقية القومية والعرقية والدينية والمذهبية.

إن إجراء تعداد عام للسكان في البلاد أمسى اليوم حاجة ملحة وأساسية من اجل الوصول إلى حلول واقعية لكثير من الإشكاليات وخاصة تلك التي تتعلق بالمناطق المتنازع عليها بين الإقليم والمركز، وبين المحافظات فيما بينها، إضافة إلى كشف حقائق حجوم المكونات الدينية والمذهبية والعرقية التي يتكون منها الفسيفساء العراقي، ووضع نسب واقعية وحقيقية للموازنات المالية حسب الكثافة السكانية لكي لا نقع سنويا في معضلة مناقشات سياسية غير علمية بحصص الأقاليم والمحافظات من موازنة البلاد السنوية.

[email protected]