إن المنظمة الارهابية التي نشأت على أسس ماركسية في فترة الحرب الباردة نمت وازدادت قوتها بإستغلال المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية والسياسية، والتي هي في العمق حصيلة للانقلابات العسكرية التي عانت منها تركيا في مراحل سابقة. وبعد انتهاء الحرب الباردة ضعفت الأسس الأيديولوجية للمنظمة واتجهت لتبني الأساس الإثني والعرقي، فضلا عن استخدامها أحيانا للعواطف الاسلامية من أجل جذب أهالي المنطقة المعروفة بعلاقاتها وأواصرها القوية بالإسلام والتدين. وقد طورت هذه المنظمة علاقاتها مع منظمات الجريمة التي كانت تنشط داخل الدولة مما أهلها لاحتراف الجريمة ببعديها المحلي والعالمي. وفي هذا الإطار استغلت قوى خارجية منظمة العمال الكردستاني (PKK)، وتداخلت مع العقليات في الداخل والتي لا ترى الشعب كأساس للمشروعية ولا تؤمن بالديموقراطية وتتغذى من الانقلابات العسكرية، وذلك لتحقيق مآربها ومصالحها الخاصة. ونتيجة للتداخل المذكور بين الأطراف ذات النوايا السيئة، حدث صراع مسلح متوسط الكثافة لأكثر من ثلاثين سنة في منطقة جنوب شرق تركيا، وراح ضحيته أكثر من أربعين ألف إنسان واضطر أكثر من مليون شخص للهجرة إلى المناطق الغربية في تركيا. 1-فصل القضية الكردية عن قضية الارهاب مهما تداخلت مسألة (قضية) الارهاب والقضية الكردية فيما بينها، فإنه لابد من الفصل بين هاتين القضيتين. القضية الكردية لها تاريخ نشأت بالتوازي مع تأسيس الجمهورية التركية. وبالرغم من تأثرها بنشاطات المنظمة الارهابية (PKK) إلى حد كبير فإن القضية الكردية تحمل أبعاداً مختلفة بعيدة كل البعد عن مسمى الإرهاب. القضية الكردية هي في المقام الأول مسألة إنسانية، نتيجة لسياسات الإقصاء والتهميش التي اتبعتها الحكومات السابقة. وفي الحقيقة فإنه رغم تلك الأوضاع لم تتمكن القومية الكردية ومنظمة حزب العمال الكردستاني (PKK) من كسب دعم أهل المنطقة بشكل كاف إلى يومنا هذا. 2- رؤية حزب العدالة والتنمية لحل الأزمة الكردية إن حزب العدالة والتنمية الذي اتخذ لنفسه شعار الديمقراطية التشاركية والتعددية، فإنه لايرى التعدد الثقافي على أنها عناصر تهديد تؤدي إلى الانقسام، بل على العكس يراها مصدرا للتنوع الثقافي الذي يغني البلاد والوطن. وحزب العدالة والتنمية يؤمن بأنه لا يمكن تحقيق نظام سلمي سياسي إلا بالديمقراطية التشاركية والتعددية. لذلك فإن تعايش الفروق الاجتماعية والثقافية مع بعضها في وسط سلمي يعتبر أمراً في غاية الأهمية. إن أهم ما ميز المرحلة الأخيرة من جهود حل المسألة الكردية هي دعوة زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان لأنصاره من المسلحين بإلقاء السلاح والمغادرة خارج حدود تركيا. وفي الواقع فإنه إذا كان من السابق لأوانه تقييم الخطوات الأولية لمسار السلام، فإنه من المتوقع أن تستمر الجهود والخطوات لحل الأزمة إلى غاية نهاية 2013. وعلى العموم يمكن وصف الجهود المبذولة وتحدياتها في مرحلتين: وبكلمة، نظرا للتشعبات الداخلية والخارجية التي مارست في ظلها منظمة العمال الكردستاني عملياتها الإرهابية، فإنه يمكن القول أن تلك العمليات شكلت على الدوام عاملا لزعزعة الاستقرار سواء في داخل تركيا أو في المنطقة بأكملها. ومن هنا فإن حل هذه الأزمة يسهم بلا شك في تأمين الاستقرار والسلام في ربوع الوطن وفي الجوار الإقليمي أيضا، بل وقد ينتج عن نجاح مسلسل السلام هذا إلى أن يصبح نموذجا يسترشد به لحل مشاكل مشابهة في المنطقة.
ويجب الانتباه في سياق ما تشهده تطورات القضية الكردية في المرحلة الأخيرة لحلها إلى أنه من الخطأ توصيفه بأنها مفاوضات بين الأتراك والأكراد لأنه يحمل كثيرا من معاني التضليل والتحريف. ومثل ذلك التوصيف ينكر في حد ذاته حقيقة الأخوة بين المكونين الكردي والتركي للبلاد، والتي هي حصيلة تعايش لمئات السنين، وما التلاحم المشترك في معركة تشاناقلعة و في حرب الاستقلال إلا إحدى المظاهر المشرقة للتعايش والمصير المشترك.
أما الإرهاب الذي أصبح أكبر مشكلة للسياسة الداخلية منذ سنوات، فقد أصبح يشكل عائقاً أمام كافة الخطوات والمحاولات التي تمت من أجل حل القضية الكردية. ولكن مع مجيء حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم دخلت هذه المسألة في طريق طويلة مع إصرار الحزب على إيجاد حل لهذه الأزمة، حيث صرح رئيس الوزراء طيب أردوغان في خطاب له قائلاً quot;مهما كان الثمن فنحن مستعدون لحل هذه القضيةquot; وأكد بذلك مدى إصراره وعزمه للمضي قدما في طريق السلام.
ومن الواضح جداً أنه لا يمكن حل مثل هذه المشاكل الكبيرة بدون تهيئة الأجواء والظروف المناسبة للحل، أبرزها الجو السياسي المناسب الذي يساهم في احتضان الحل. وفي هذا الإطار فإن الخيار الديموقراطي الذي يشكل قناعات وتصورات حكومة حزب العدالة والتنمية، بالإضافة إلى جودة الخدمات التي يقدمها الحزب وتوفير الوسط الآمن، وغير ذلك من العوامل، لم تزد من جاذبية تركيا فحسب بل ساهمت في الوقت نفسه بإنضاج البيئة السياسية التي أزالت الكثير من العواعق الحائلة دون حل الأزمة. ومن جهة ثانية فإنه تم حصر وشل معظم الجهود التي تسعى إلى الإبقاء على الوضع المتأزم المؤطر بمفاهيم انقلابية وتسلطية، وفي المقابل تأسس وعي ثقافي جديد يؤمن بالمشاركة والتعايش الذي كان سائدا في السابق. وكل هذه العوامل أدت إلى تزايد التأييد الشعبي وإيمانه بضرورة حل هذه الأزمة، فالجو الايجابي الذي حصل نتيجة تلاؤم الظروف والمبادرات اللازمة في سبيل حل هذه المشلكة يعتبر مؤشراً لدخول تركيا في عهد جديد. وفي رؤية حزب العدالة والتنمية المستقبلية يعتبر تحقيق السلام والطمأنينة في البلاد شرطاً أساسياً لا غنى عنه في إطار مشروعه لتركيا الجديدة والقوية في أفق عام 2023.
3- تطورات العملية السلمية الأخيرة
المرحلة الأولى: اشترطت فيها حكومة حزب العدالة والتنمية أن تترك منظمة العمال الكردستاني للسلاح والانسحاب إلى خارج البلد. وبالرغم من عدم تحديد مكان معين لهؤلاء فإنه من المحتمل أن يغادر الكادر القيادي إلى أوروبا وترحل العناصر التنظيمية إلى شمال العراق.
وهناك سؤال يمكن أن يخطر على الذهن في هذا السياق وهو، كيف سيتم تقييم وضع عناصر التنظيم الذين لم ينخرطوا أو لم يشاركوا في أي عملية عسكرية؟ والإجابة أنه ليس من الضرورة أن يخرج جميع عناصر التنظيم إلى الخارج، وتعتبر هذه النقطة إحدى المسائل الهامة اتفقت عليها الأطراف المتفاوضة.
المرحلة الثانية: تشمل القيام بالتحضيرات اللازمة لتأمين نزول عناصر منظمة العمال الكردستاني الذين سينزلون من الجبال وتحديد الخطوات. وترى الحكومة أن المنظومة القانونية الحالية تكفي لتغطية هذه الخطوات، ولا حاجة هنا إلى أي تعديل قانوني جديد من أجل هذه المرحلة.
إن التقرير الذي سيتم إعداده في ختام أعمال لجنة الحكماء التي شكلت للعمل في لمناطق الجغرافية السبع في البلاد ستلعب دوراً هاماً في هذه المرحلة. وتتكون هذه اللجنة من أكاديميين وصحافيين وكتاب ورجال أعمال وحقوقيين وعلماء السياسة ومن الفنانين ونجوم السينما المشهورين ومن ممثلي مؤسسات المجتمع المدني. والميزة المشتركة في هذه اللجنة، هي احتضانها لكل شرائح المجتمع، فضلا عن أنها مشكلة من شخصيات مقبولة ومحترمة من قبل المجتمع. وإن أهم عمل ستقوم بها هذه اللجنة هو تأسيس وجهة نظر مجتمعية والعمل على تعميم النقاش حولها وتطويرها. وتعد هذه الخطوة في غاية الأهمية لأنه من الصعب الحصول على نتيجة إيجابية من غير إيجاد سند مجتمعي ورأي عام واسع يقبل الحلول المقترحة.
(نائب برلماني عن أنقرة ممثلا لحزب العدالة والتنمية)
التعليقات