القاعدة في منطق الثورات، عبر التاريخ، هو أنها تبدأ بفوضى ثم تنتهي بنظام. هكذا بدأت ثوارت quot;الربيع العربيquot; الأربعة، التونسية والمصرية والليبيبة واليمنية، باللانظام وانتهت إلى quot;شبه نظام، في أقل تقدير. لكنّ الأرجح هو أنّ الثورة السورية التي بدأت بفوضى، ستنتهي إلى فوضى. الفوضى، إذن، بإعتبارها مبتدأً لهذه الثورة / التراجيديا وخبراً متوقعاً جداً لها، باتت على ما يبدو، هاجساً يقض مضاجع السوريين، وحقيقة ساطعة، بالتالي، من حقائق حراكهم الثوري المسلح حتى الأسنان، والذي لا يكاد يخرج من فوضى مدمّرة حتى يعود إلى فوضى أخرى أكثر وأكبر تدميراً.

الفوضى بلا حدود، باتت تشكلّ، إذن، العنوان الأبرز لهذه الثورة: فوضى للجميع، فوضى من الجميع إلى الجميع، و فوضى الجميع ضد الجميع. والسبب الأساس، كما يبدو لي، هو انزلاق أهل الثورة سياسيين وعسكريين، إلى الوحل الطائفي، ونظرتهم بالتالي لسوريا وما فيها وعليها، بقسمة الأمور وفقاً للثنائيات الدينية: الله والشيطان، الخير و الشر، دار السلام ودار الحرب، الثورة والنظام، أهل الثورة (أهل السنة) وأهل النظام (ملة علي أو العلويون)، الجيش السني (جيش محمد) والجيش العلوي (جيش علي / الصفوي)، quot;سوريا السنيةquot; (سنستان) وquot;سوريا العلويةquot; (علويستان) وهلمجرا.

تقليد أهل المعارضة للنظام وتفصيلهم، تالياً، لسوريا على مقاسات هذه الثنائيات الضدية القاتلة والمدمّرة، أخرج الثورة من معنى وطن كبير وكثير إسمه سوريا، واختزلها لا بل مسخها إلى وطن أحادي الإتجاه، بمعنى واحد: سوريا واحدة وحيدة لا شريك لها، سوريا بدين واحد، ولسان واحد، ولون واحد، وسياسة واحدة، وتاريخ واحد، وثقافة واحدة، ودستور واحد، وشريعة واحدة، وقائد/ أمير / إمام واحد..إلخ.

الثورة في مظنتي لا دين لها، ليس بمعنى quot;ضد الدينquot;، وإنما بمعنى تحييده.
فقط تحت سقف quot;لادينيةquot; الثورة أو لا تديّنها، أو فك دين أهل الثورة من دنياهم، وسمائهم من أرضهم، يمكن للكلّ، الديني واللاديني معاً، الإتفاق على شيء إسمه وطن.
حينها فقط يمكن للدين أن يكون من نصيب الله، فيما يكون الوطن نصيباً للجميع.

من استمع لحديث الناطق الرسمي بإسم quot;هيئة الأركان القيادة العسكرية الثوريةquot; العقيد عبد الحميد زكريا لقناة العربية، في سياق تعليقه على المعارك الضارية التي تدور على تخوم مدينة القصير بريف حمص، بين قوات الأسد المدعومة من عناصر quot;حزب اللهquot; اللبناني وكتائب quot;الحرّquot;، وعلى رأسها كتائب quot;جبهة النُصرةquot;، سيكتشف بيسر شديد ومن غير تدبّر أو تعمق في التحليل، أنّ الثورة السورية لن تنتهي على خير قريب في سوريا وحواليها.

يقول المتحدث الرسمي بإسم الجناح العسكري للثورة، بلهجة تهديدية، طائفية، تدميرية، واضحة وصريحة: quot;لو سقطت القصير فإن تغيّراً جذرياً في ساحة الصراع في سوريا سيحدث.. القُصير هي قمة الحرب الطائفية..لو سقطت القصير ستكون هناك حرب طائفية دموية علنية مفتوحة، وسُتباد قرى شيعية وعلوية بأكملها من على الخريطة..لا أحد يستطيع حينها كبح جماح الفرسان السود (إشارة إلى عناصر القاعدة الذين يتشحون عادة بالسواد)..نحن لا نتمنى ذلك، لكنّ الأمور ستخرج عن سيطرة الجميع.. وستفرض نفسها على الجميعquot;.
وحين حاولت المذيعة الإستفسار عن بعض ما جاء في كلامه الأكثر من خطير، أجاب المتحدث: quot;أنا أعي معنى كلّ كلمة قلتهاquot;. ما يعني أن الرجل واعٍ تماماً لما يقول، ومسؤول عن كلّ كلمة قالها أمام العالم والثورة وأهلها.

ماذا يعني كلام أكثر من خطير كهذا، صدر بالصوت والصورة من ناطق رسمي كبير بإسم الثورة ومن أعلى قيادة أركانها؟
ماذا يعني quot;إبادةquot; قرى شيعية وعلوية بكاملها من على الخريطة؟
ماذا يعني إيحاءه وكأني به يسمي quot;فرسان القاعدةquot; بquot;فرسان الثورةquot;؟
ماذا يعني تخويفه للنظام ومن سماه بquot;حزب الشيطانquot; وتهديدهم بquot;المتشحين بالسوادquot; من عناصر القاعدة؟
ماذا يعني احتماء الثورة في عباءة القاعدة؟
ماذا يعني اعتبار ناطقها الرسمي لquot;القصيرquot; فيما لو سقطت، بدايةً لquot;حرب طائفية دموية علينة مفتوحةquot;؟
هل الثورة السورية هي ثورة شعب ضد نظام، أم حرب طائفة ضد طائفة؟
والسؤال الأهم الذي يبقى هو:
هل أصبحت الثورة السورية بالفعل (أو تكاد) خارج السيطرة، كما نفهم من كلام المتحدث بإسم قيادة أركانها؟

أفهم أنّ معركة القصير هي بحكم موقعها الفاصل الواصل بين لبنان وسوريا، هي معركة مصيرية أو معركة quot;كسر عظمquot; بين النظام والمعارضة، خصوصاً وأنّ كلا الطرفين يحاول تسجيل المزيد من الإنتصارات وتحقيق المزيد من التقدم على الأرض، قبل انعقاد مؤتمر quot;جينف 2quot;.

وأفهم أن نظام دمشق الفاشي بكلّ ما تعني هذه الكلمة من معنى..نعم الفاشي بنسخته العربية، مستعدٌ أن يحرق كلّ سوريا، وأن يسقط كلّ سوريا، ويمحي كلّ شعبها من الوجود، لأجل بقائه على كرسي الحكم.

وأفهم أنّ هذا النظام حاول ولا يزال قصارى جهده، للتشويش على الثورة وأهلها، ودفعهم بالتالي نحو إلمزيد من التخندق في الدين والطائفة والإختباء وراءهما، بدلاً من التخندق في سوريا أكبر وأكثر وأشمل وأعمّ، سوريا الثورة المفترضة، التي كان من المفترض بها أن تكون فوق كلّ دين، وكلّ طائفة، وكلّ قومية، وكل حزب، وكلّ جماعة، وكل عشيرة.

وأفهم أن مشروع النظام هو مشروع خارج وطني بإمتياز، فيه من اللاوطن أكثر بكثير من الوطن، ومن الديكتاتورية وحكم الفرد أكثر من الشعب وحكمه، ومن الإنحياز إلى الطائفة أكثر من انحيازه إلى الأمة، ومن إيران أكثر من سوريا.

وأفهم أن مشروعه quot;المقاوم والممانعquot; مع جيوبه من quot;المقاومات الإلهيةquot;، فيه من حب العدو، أكثر من كراهيته، ومن quot;ضدquot; فلسطين أكثر من quot;معهاquot;، ومن تدمير وتفتيت لبنان أكثر من بنائه ووحدته، ومن الفتنة الطائفية أكثر بكثير من quot;الوحدة العربيةquot;.

لكنّ ما يصعب فهمه، هو كيف لثورة أن تجيز لنفسها ما يجيزه ديكتاتور فاشي لنفسه؟
كيف لثورة أن تكون ضد ديكتاتورية، وهي تقلّدها؟
كيف لثورة أن تكون quot;ثورة حريةquot;، وتمشي بعكسها؟
كيف لثورة أن تكون quot;ثورة كرامةquot;، وتدوس على بعضها؟
كيف لثورة أن تكون quot;ثورة سوريةquot;، وتهدد بمحو طائفة أو بعضها من على خريطتها؟
كيف لثورة أن تكون quot;ثورة مدنيةquot; وتحتمي بquot;فرسانquot; القاعدة وأخواتها؟
كيف لثورة أن تكون quot;ثورة ديمقراطيةquot; وتمارس عكوسها؟
كيف لثورة أن تكون quot;ثورة شعبيةquot; وتهدد شعبها؟
كيف لثورة أن تتقدم إلى الأمام وهي تسقط في ورائها؟

إذا كانت quot;الثورة مثلها مثل الرواية اصعب جزء فيها كيفية إنهاؤهاquot;، على حدّ قول الفيلسوف الفرنسي ألكسي دو تشيفيل، فإن الجزء الأصعب في الثورة السورية، سيكون في كيفية السيطرة عليها؛ على عقلها الذي بات بمجمله، فيه من الإنتماء إلى الدين والطائفة أكثر من الإنتماء إلى الوطن، وعلى سلاحها الذي تتقدمه الرغبة في الإنتقام أكثر من الرغبة في تحقيق السلام والوئام، وعلى أمراء الحرب فيها، الذين يحملون على أكتافهم أجندات خارجية quot;فوق أو خارج وطنيةquot;، أكثر من حملهم لأجندات وطنية سورية.

[email protected]