المتتبع للمشهد الكردي السوري في ظل ما تشهده الأزمة السورية من تجاذبات سياسية واستقطابات إقليمية ودولية، سيكتشف أنّ حال الكرد السوريين لجهة انقسامهم بين أقطاب الصراع في المنطقة، واختلافهم فيما بينهم، هو من حال كلّ السوريين، مع فارق أنّ الكرد في سوريا وخارجها، بمختلف تياراتهم وأحزابهم وطوائفهم يكادون يتفقون مبدئياًَ على صيغة quot;الفيدرالية لكردستان سورياquot;، وضمان الحقوق القومية لهم كquot;شعب على أرضه التاريخية، ضمن إطار الدولة السوريةquot;. لكنّ بقدر اختلافهم على الغاية أي كردستان(هم) السورية، هم يختلفون على الطريق أو الوسيلة إليها، التي تبررها، حتى بات لكلّ فريق quot;ماكيافيلليتهquot; التي يبرر من خلالها quot;كردستان الغايةquot; بquot;كردستانات الوسائلquot;، أو quot;كردستان الهدفquot; بأكثر من سبيل أو طريق كردستاني إليها.
أكراد سوريا الذين يتجاوز تعدادهم ال3 ملايين نسمة (يشكلون أكثر من 13% من مجموع سكان سوريا البالغ تعداده 23 مليون نسمة) انخرطوا منذ الأول من الثورة السورية في حراكها السلمي، إلا أنهم نأووا بأنفسهم ولا يزالون عن الدخول كطرف مسلّح في الصراع الدموي الدائر في سوريا، بين quot;الجيش الحرquot; الجناح العسكري للثورة وجيش النظام، إلا نادراً. الأكراد كانوا ولا يزالون في مجملهم، بمختلف فصائلهم وقبائلهم السياسية، يفضلون عدم المشاركة الفعلية في مشروع quot;عسكرة الثورةquot;، إذ لا يتجاوز عدد الكتائب الكردية المنضوية تحت لواء quot;الجيش الحرّquot; عدد أصابع اليد الواحدة، ما يعني أن مشاركة الأكراد في الحراك الثوري المسلح، مقارنةً بوزنهم السكاني، لا يتعدى أكثر من كونها مشاركة رمزية لغرض الديكور والإستهلاك السياسي المحلي ليس إلا.
القوة الكردية المسلحة الفعلية الوحيدة على الأرض، والتي اتخذت استراتيجية quot;الدفاعquot; بدلاً من الهجوم في المناطق الكردية، على طول الحدود مع تركيا، والتي تسيطر عليها من عفرين إلى عين ديوار مروراً بكوباني وقامشلي، هي quot;قوات حماية الشعب YPGquot;، الجناح العسكري لحزب الإتحاد الديمقراطي الكردستاني PYD، المقرّب من حزب العمال الكردستاني PKK.
سياسياً يبدو الأكراد السوريون منقسمين بين استراتيجيتين أو لنقل بين محورين مختلفين إن لم نقل متناحرين: محور تقوده quot;كردستان قنديلquot; بزعامة حزب العمال الكردستاني، وآخر تقوده quot;كردستان هوليرquot; بزعامة رئيس الإقليم مسعود بارزاني. بمعنى أن quot;كردستان سورياquot; أو quot;غرب كردستانquot; ليس لها في ظلّ الصراع الكردي عليها، إلا أن تنوس بين قطبين كرديّين متباعدين: أحدهما في الشمال وآخر في الجنوب.
تأسيساً على هذا التنافر الأيديولوجي العقائدي بالدرجة الأساس، بين أهل هاتين الإستراتيجيتين الكرديتين، توزعت الأحزاب الكردية السورية، على اختلاف تياراتها وتوجهاتها وسياساتها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، بين مجلسين كرديّين؛ المجلس الوطني الكردي (يضم 16 حزباً) الذي تأسس بدعوة مباشرة من بارزاني وبإشراف مباشر منه عليه، وquot;مجلس غربي كردستانquot; التابع لحزب الإتحاد الديمقراطي PYD.
في محاولةٍ منه للوحدة بين المتناقضات في البيت الكرديّ الواحد، دعا بارزاني الطرفين للتوقيع على اتفاقية هولير (11.07.2012) تحت رعايته، والتي انبقثت عنها quot;الهيئة الكردية العلياquot; لتضم 10 أعضاء مناصفةً بين أهل المجلسين. إلا أنّ الإتفاقية فشلت على الأرض لأكثر من سبب، لعلّ أهمّ هذه الأسباب هو صراع أكراد الجوار على الكعكة الكردية في كردستان السورية، حيث يسعى كلّ طرف من الطرفين المتنازعين إلى تثبيت أقدامه كرقم كردي، في المعادلة الإقليمية الصعبة والصراع الدائر بين المحورين المتصارعين في المنطقة؛ السني والشيعي.
على الأرض يمكن إيجاز المشهد الكردي السوري، كالتالي: PYD ممثلاً في quot;مجلس غربي كردستانquot; وذراعه العسكرية quot;قوات حماية الشعب YPGquot; هي القوة الفعلية الفاعلة على الأرض، والتي تتحكم بزمام الأمور في مجمل المناطق الكردية، أما quot;المجلس الوطني الكرديquot; فهو عملياً مجلس أكثر من معطّل، ومنشغل بلصق البيانات ومذكرات التفاهم الخارجة عن كلّ فهم ومحاضر الإجتماعات التي فيها من اللاإتفاق أكثر من الإتفاق على جدران ال PYD؛ هو عملياً يعاني الشلل والتعطيل والتعطيل المضاد، ومنقسم على نفسه بين quot;مجلسينquot;، أحدهما اتخذ شكل ما يسمى بquot;الإتحاد السياسي الديمقراطيquot;، وهو مشروع لتتوحد تحت سقفه أربعة أحزاب (الديمقراطي الكردي / البارتي + يكيتي الكردي + آزادي 1 + آزادي 2) في quot;اتحادquot; واحد، أما الآخر فيضم أحزاباً يبدو أنها حسمت أمرها بالإنضمام إلى استراتيجية ال PYD، والعمل والتنسيق معها، يقودها quot;الديمقراطي التقدميquot; ورئيسه حميد حاج درويش. إلى جانب هاتين الكتلتين، هناك مجموعة أخرى من الأحزاب والجماعات الصغيرة، التي هي في انتظار فرصتها لحسم موقفها مع إحدى الكتلتين.
في الوقت الذي يثني فيه البعض، على مستوى الشارع الكردي، بعامته وخاصته، على quot;اتفاقية هوليرquot;، ويشكر جهود راعيها مسعود بارزاني على quot;توحيدهquot; للكرد السوريين تحت مظلة سياسية واحدة، هناك في المقابل من يضع كلّ اللوم عليها، في كونها السبب الأول والأخير، لإسقاط quot;المجلس الوطني الكرديquot; في التعطيل واللافعل، وترك الساحة بالتالي مفتوحةً أمام جماح ال PYD لبسط نفوذه وسيطرته كقوة وحيدة على كامل المنطقة الكردية.
والسؤال الذي يمكن أن يقفز بنفسه في وجه كلّ متابعٍ في هذا الشأن، هو: هل أخطأ بارزاني الهدف، أم أنّ حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر، على حدّ قول المثل؟
لا أعتقد أنّ بارزاني أخطأ الهدف / الغاية، وإنما أخطأ في الوسيلة إليه/ ها.
أما quot;اتفاقية هوليرquot; التي أراد لها بارزاني أن تكون الوسيلة إلى quot;نصف النفوذquot; في كردستان سوريا، مناصفةً مع العمال الكردستاني، كما يُفهم من جوهرها، وكأنها مستوحاة من روح quot;إتفاقية الفيفتي فيفتي الإستراتيجيةquot; التي وُقعت بين حزبه وحزب طالباني في 21.01.2006، فكان فيها من المثال أكثر من الواقع، ومن كردستان العراق وكردستان تركيا، أكثر من كردستان سوريا، ومن الإختلاف على هذه الأخيرة، أكثر من الإتفاق عليها، ومن تركيا ضد إيران أو بالعكس، أكثر من سوريا مع نفسها. بإختصار شديد جداً quot;اتفاقية هوليرquot; ولدت ميتة، لسبب بسيط، وهو أنّ الكرد مثلهم مثل كلّ المعنيين بالمنطقة والموغلين في وحلها، منخرطون بحكم إيديولوجياتهم وجهاتهم واستراتيجياتهم، شاءوا أم أبوا، في لعبة الإستقطاب الإقليمي والدولي الحاد بين القوى المعنية بالأزمة السورية.
فمثلما انقسمت الدول الإقليمية ومعها العالم وعلى رأسها الدول الخمس الكبرى إلى قطبين متنافرين: quot;أصدقاء الشعب السوريquot; وquot;إصدقاء النظامquot;، كذلك انقسم الأكراد على أنفسهم، بين هذين القطبين أو المحورين، إلى quot;أكراد المعارضةquot; وquot;أكراد النظامquot;، علماً أن توصيفاً كهذا لا يمكن بأيّ حال من الأحوال مقاربته، مقاربة دينية، وفقاً لثنائية quot;الله/ الشيطانquot;، أو quot;الخير / الشرquot;، أو quot;المقدس / المدنسquot;.
القضية في سوريا خرجت منذ الأول من دخول العنف والجماعات الإرهابية على خط الثورة، من كونها قضية quot;شعب ضد نظامquot;، أو quot;ثورة كرامة وحرية ضد ديكتاتوريةquot;. الأمر بات واضحاً للجميع، أنّ ما يجري الآن على الأرض السورية، هو تصفية حسابات قديمة جديدة بين جهات إقليمية ودولية، والشعب السوري بكلّ قومياته وإثنياته وطوائفه، بلا استثناء، هو كبش فداء في هذا الصراع، الذي ليس له فيه ناقة ولا جمل.
إذن الكلّ، كلّ العالم بدون استثناء متهمٌ في الدم السوري، الذي ما ينفك أن يخرج من quot;بازارٍ سياسيquot;، حتى يدخل بازاراً آخر.
ذات الشيء يمكن سحبه على الأكراد أيضاًَ، السوريين منهم بخاصة، وأخوانهم في جهات كردستان الأخرى بعامة. القضية، بكلّ ما فيها، ليست قضية منافسة بين quot;كردستانَينquot; على قلب كردستان السورية، كما يحاول كلّ فريق من الجهتين إيهام جمهوره. وإنما هي قضية سياسة ومصالح وموازين قوى وصراع على الكعكة الكردية السورية، بالدرجة الأولى والأساس.
تاريخياً، مافرّق بين أهل الكردستانَين كان ولا يزال أكبر بكثير مما يجمعهم. فلا الثقافة تجمعهم ولا الإجتماع ولا ما بينهما من سياسة.
الكردستانان؛ quot;كردستان بارزانيquot; وquot;كردستان أوجلانquot;، كانتا على الدوام، ولا تزالان خطان كرديان متوازيان، لن يلتقيان مهما امتدّا.
أما على المستوى الإقليمي والدخول كquot;بعض رقمquot; كردي في اللعبة الإقليمية، فإنحياز بارزاني أو انضمامه إلى quot;المحور السنيquot;، خصوصاً في ظل توتر العلاقات بين quot;عراق المالكيquot; وquot;عراق هوليرquot;، هو كتحصيل حاصل، مكانه الطبيعي، الذي يفرضه راهن كردستان(ه) ومستقبلها أيضاً، وذلك بحكم تداخل وتشابك المصالح بين هذه الأخيرة وبين تركيا الجارة، بوابة كردستان العراق الوحيدة على العالم، أو quot;بوابة الأمل الوحيدة لكردستانquot;، كما صرّح رئيس وزراءها نيجيرفان بارزاني أكثر من مرّة.
بقدر أهمية تركيا لكردستان، تهم هذه الأخيرة تركيا أيضاً. بالإضافة إلى الأسباب الإقتصادية والتجارية التي تكمن وراء حاجة الأتراك إلى هكذا علاقة، هناك أسباب جيوبوليتكية وأمنية تتعلق بquot;عمقها الإستراتيجيquot; في quot;العراق السنيquot;، ناهيك عن ارتباطها بكردستان في حدود مشتركة بطول 700 كم، تفصل بين كردستانَين. أمن الدولة التركية يفرض عليها التعاون مع كردستان العراق، لأجل السيطرة على حزب العمال الكردستاني، وكبح جماح quot;دولتهquot; في قنديل.
اقتصادياً، وبحسب تقارير رسمية تتواجد أكثر من 730 شركة تركية في كردستان من أصل 1317 بإسثمار نحو 4 بلايين دولار، وأن هناك 51 عضواً تركياً في quot;اتحاد مقاولي كردستانquot;. وتشير التقارير ذاتها أنّ تركيا بإعتبارها الشريك التجاري الأول لكردستان بلا منازع، تسعى إلى رفع قيمة تبادلها التجاري من 7 بلايين دولار إلى 20 بليوناً.
في مجال النفط والغاز، حيث تشكّل إحتياطات كردستان منهما أهمية ليست بقليلة في الأسواق العالمية، فتركيا هي الممر الوحيد لنقلها إلى أوروبا. وبحسب تصريحات لرئيس الوزراء نيجيرفان بارزاني، يبلغ احتياطي إقليم كردستان من النفط 45 مليار برميل ومن الغاز الطبيعي 3 تريليون متر مكعب. الأمر الذي quot;جعل الإقليم محط أنظار العالم ودخول إسمه في خارطة إنتاج الطاقة العالميةquot;، على حدّ قوله.
أما ثقافياً، فهناك في كردستان حضور قوي وفاعل لquot;تركيا الإسلاميةquot; وثقافتها، سواء على مستوى المدارس ورياض الأطفال، أو على مستوى الجامعات وعقد المؤتمرات، التي تتبع في عقلها التعليمي لحركة الأب الروحي لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وحزبه، فتح الله كولن.
كلّ هذه المصالح المشتركة مجتمعةً أسست لعلاقة quot;ارتباط عضويquot; بين الشريكين كدولتين جارتين، حتى يخال للمرء كأنّ كردستان أصبحت جزءاً من تركيا، أكثر من كونها جزءاً من العراق نفسه. وما قوّى من هذا quot;الإرتباط العضويquot; بين الطرفين ووطد من أواصره، هو ما تشهده المنطقة من استقطاب وتجاذب وصراع شرس.
في الوقت الذي يجد فيه بارزاني مصلحة quot;هوليرquot; في الإنحياز إلى تركيا بإعتبارها أهم لاعب في المحور السني بالمنطقة، يجد حزب العمال الكردستاني في المقابل مصلحة quot;قنديلquot; في الإنحياز إلى quot;المحور الشيعيquot;، الأمر الذي دفع بتركيا مؤخراً إلى الدخول معه في حوار لأجل التمهيد لquot;اتفاقية سلامquot; بين الطرفين، لسحب البساط من تحت أقدام إيران (ومعها النظام السوري والعراق)، التي عرضت على الكردستاتي تزويده بالمال والسلاح والتقنية العسكرية المتطورة مقابل التراجع عن عملية السلام، لكنّ الأخير رفض. ما يعني أنّ لquot;قطار السلامquot; الذي انطلق في تركيا مع انسحاب أول دفعة لعناصر العمال الكردستاني إلى خارج الأراضي التركية، في الثامن من الشهر الجاري، علاقة جدّ مباشرة مع الأزمة السورية، ودور ومستقبل الأكراد في سوريا ما بعد بشار الأسد.
القضية الكردية السورية، في ظل كلّ هذه الإستقطابات والإستقطابات المضادة، لم تعد في الحقيقة، قضية شعب كردي واحد في سوريا واحدة، وإنما تحوّلت بحكم صراع المحاور وعراك المرجعيات الكردية، إلى قضية quot;شعبينquot; في سوريتين متحاربتين، بإستراتجيتين متضادتين: واحدة تقودها quot;دولة بارزانيquot;، وأخرى تقودها quot;دولة قنديلquot;. والفرق بين هاته وتلك، يساوي تماماً الفرق بين زعيمي الدولتين، مسعود بارزاني الذي يدير من منتجعه الجبلي quot;سره رشquot; أكراده السوريين في الفنادق، وعبدالله أوجلان الذي يدير من سجنه بإمرالي أكراده في الخنادق.
التعليقات