الحياة اليومية بكل تفاصيلها - حتى المشروعة - هي سجن يبتلع الإنسان (ويستعبده) بأجمل الأحلام والأوهاوم والأطماع ويدخله في تنافس وصراعات لامتناهية، ومن يريد إنقاذ نفسه من ورطة إبتلاع الحياة له سيجد نفسه يسير على نهج ((بوذا )) والمتصوفة والفلاسفة وجميع الأحرار الذين تمردوا على معايير القطيع وكسروا الروتين، وإنخرطوا في الدهشة والتساؤل.

فمن يريد العيش بمستوى مرتبة الحياة الإنسانية الحقيقية.. لامفر له من البحث عن الخلاص من خطر الإنغماس الكلي في التفاصيل اليومية وتحوله الى آلة منفعلة تتحرك بدافع التملك والإفتراس ويُختزل كيانها في جانب واحد فقط ويضيع العمر دون التعرف على بقية جوانب الوجود والمعنى الحقيقي له.

الدهشة من كل شيء، هي الوسيلة الرائعة والناجحة للإرتقاء بالكائن البشري من مرتبة الحياة الغريزية البدائية الى مرتبة الإنسان المفكر، وهي ممكنة وسهلة إذا مورست على طريقة (( زوربا )) بطل رواية (( نيكوس كازنتزاكي)) التي حملت إسمه، فقد كان زوربا شخصا فطريا ليس له علاقة بالكتب والتعليم والثقافة.. لكنه يرى الأشياء كل يوم من جديد كما لو انه يشاهدها لأول مرة وينفعل بها، وكان يحول المألوف العادي الى دهشة وتساؤل وهكذا ظل يعيش كائنا مفكرا مستمتعا بأبسط المشاهد ومغذيا وعيه وروحه بالسؤال.

كل إنسان بمقدوره تدريب نفسه والتعود على تأمل الأشياء والأحداث والناس والكون والله، وطرح الأسئلة دون الإلحاح على معرفة الجواب، فالأسئلة هي من سينتزعنا من سجون الروتين والإنشغالات اليومية وترتفع بنا شيئا فشيئا الى مدارج الرقي الفكري والروحي وخصوصا الأسئلة المرتبطة بعالم الغيب كالموت ومابعده، والله وأسرار خلقه للكون، والسؤال الكبير: كيف خلق الله نفسه؟!

إنغمار الإنسان بالتأمل والأسئلة سيمكنه من إستعادة ذاته، وبحسب قول الفلسفة الروحانية سيجعله يغادر (( الأنا )) ويتصل بالوعي الكوني - الله، فالدهشة من خلق الكون وما فيه ستصعد بالذات وتحلق بها عاليا في سماء القيم والمباديء، والتفكير في المصير الفردي والجماعي والغاية من الوجود ومعناه.. وصولا الى سؤال: ماذا بعد؟.. وتذكر الفناء والموت الذي سيخفف كثيرا من شدة التكالب على الحياة ووحشية التملك، وسيربطنا عميقا بالله ليس على طريقة المتدينين، وإنما على خطى المفكرين الباحثين عن الحقيقة والتعرف على خالق هذه المعاجز وسر الأسرار.

[email protected]