وصلت متأخرا إلى باريس.. الجو أظلم بسرعة بينما كانت قطرات المطر تنبئ بخريف يبدأ مسرعا.. سحبت حقيبتي الصغيرة وراء الصفوف الطويلة الممتدة خلف أكشاك الشرطة لا تأخذ سمة الدخول سوى لحظات، فقد انتهي الزمن الذي كان الشرطي يتفرس في ملامح القادمين الذين رأت فيهم فرنسا ساركوزي عبئا اقتصاديا.
ذهب ساركوزي إلى غير رجعة بعد أن لفظته صناديق الانتخاب وأصبحت فرنسا على شفا الإفلاس تبحث في زوارها عن بلسم للتعافي.
هذه هي باريس؛ قالها السائق الذي بدا لي لأول وهلة صينيا، إذ أصبحنا نراهم في كل الوجوه الآسيوية، لكن الأربعيني الشاب ينتمي لكمبوديا وليس من الصين.. ولد في فرنسا دون أن يكتسب لكنتها، فما زالت فرنسيته اسيرة نطق بلاد سيهانوك.
كانت فرنسا تحلم بإمبراطورية لا تغيب عنها الشمس ولكن مغامراتها الآسيوية سرعان ما انتهت بسرعة على وقع هزائم مرة، وما تبقي هو آلاف المهاجرين الذين استوطنوا مدنها مشكلين جزءا من الفسيفساء التي تشكل اليوم خارطة سكان باريس.
بدت ثقتي الزائدة في صديقي اللندني في غير محلها، فالاعتماد عليه لحجز غرفة في الفندق بباريس كان سرابا.
البحث عن غرفة هي مهمة مستحيلة في هذه الليلة.. ما الذي يحدث لتمتلأ فنادق باريس الصغيرة منها والكبيرة؟!.. حتي محركات البحث التي ركن إليها صديقي تعطي نفس النتائج، لا حاجة للبحث عن المستحيل؛ قالها لي الموظف الجزائري الشاب في الاستقبال، ابحث في خارج العاصمة إذا كان لديك الحظ.
لكن الحظ توقف في طريقي فجأة.. إنه مراد؛ سائق التاكسي الستيني الذي قضي أربعة عقود خلف مقود التاكسي في باريس.
وصل مراد من ضاحية الأبيار بالجزائر العاصمة ليلتحق بأبيه الذي كان عاملا في أحد المصانع منذ الأربعينيات.. حفظ شوارع باريس وأزقتها.. أحبها ويحلم بالتقاعد فيها، واصفا إياها بأنها أجمل مدينة في العالم.
سألت مراد إن كان يعتزم أن يتوج حياته بالحج، كما يفعل أغلب من بلغوا الستين من أقرانه، ابتسم وقال: يقولون ذلك.. كانت تلك طريقته في التهرب من سؤال لمن هو متصوف إلى درجة الحلاج في حب باريس.
يعتقد مراد أنه أحسن صنعا بتطبيق وصية الوالد عندما قال له أن يتمسك بالأوراق الفرنسية.. كان ذلك في أوج النزعة الوطنية عندما عاد البعض إلى الجزائر غداة الاستقلال، ولكن ماذا أعطي الوطن وماذا تعطي باريس، يردد مراد: كلنا نحب أوطاننا، ولكن هل تبادلنا نفس الحب؟..
لمست ذات الأسى الذي يقابلك أينما تلتقي بمهاجرين يشعرون بالذنب أنهم تركوا بلدانهم ثم لا يجدون بدا من البقاء في أوطانهم الجديدة.
نسينا الفنادق ونحن نسلك الطريق إلى الضفة اليسري لنهر السين.. قال لي مراد: عندما تعود مرة أخري إلى باريس ابحث عن فندقك يسار السين، ففي الضفة الأخري من النهر توجد باريس الجميلة حيث الحي الآتيني والسربون والمقاهي التي لا تنام.
يا حسرتي علي باريس.. قالها مراد وهو يتحسس جبينه، أحسست كأن الرجل يحكي عن موطن الطفولة ومنبع الذكريات أو ضياع الاندلس.
مررنا وسط الحي، كما نصح مراد، ولا يزال كل فندق يلفظنا للآخر، لكنني استفدت جزءا من تاريخ الهجرة، واكتشفت أن العرب؛ إذا جاز وصف أهل شمال أفريقيا، يملكون أجزاء مهمة من عاصمة الفرنسيين.
لا أمل إلا في المقاطعة العشرين؛ قال لي السائق الجزائري، هنالك يوجد فندق صديقي يمكنني ان أكلمه على الفور.
كان الليل قد دخل ثلثه الأخير، لكن ذلك لم يمنع مراد من مهاتفة صديقه.. ليس هذا وقت النوم في باريس؛ قال السائق وهو يرد على إحساسي الظاهر بالحرج، هذا وقت قيام الليل.. لن يكون بعيدا ربما في الحانة القريبة من البيت.
تحدث مراد إلى صديقه وصدقت توقعاته، فكانت النتيجة غرفة في الطابق الرابع تقود إليها سلالم مرهقة وضوء مصباح خافت في يد موظف الاستقبال المغربي.
كان النعاس يغالبني عندما سقطت مغشيا على السرير وغبت في نوم عميق، وفي الصباح أدركت أن لكل باريسه التي تخص به، أما العربية منها فتحتل أجزاء كبيرة من المدينة الفرنسية.
من قال إننا نحن أيضاً لم نأخذ ثأرنا من الاستعمار، وان أبناءنا أصبحوا هم المستعمرون الجدد؛ الذين يكيلون للفرنسيين أضعاف ما اقترفوه، ودون أن أغيب في الجدل الذي يحبذه الساسة الفرنسيون بحثا عن شعبية زائدة عندما يحملون المهاجرين كل مآسي فرنسا، ابتعدت عن الضواحي مستعيدا غرفة في الفندق الذي أنزل فيه عادة غير بعيد من الشانزليزيه.. كانت تلك طريقتي لنسيان ما فات، ولتبقي تجربتي مع مراد وليلة الغم في باريس مجرد حكاية من تلك التي تكرر كل ليلة يعود فيها نهر السين إلى مجرا