لا تريد القوات الفرنسية الدخول في حرب استنزاف في مالي، لذلك حزم الجنود حقائبهم استعدادًا للرحيل بعد تحقيق الأهداف الأساسية، لكن الدبلوماسية الفرنسية تبحث في الجوار عن مَن يكمل المهمة.


انتهت العمليات القتالية الكبيرة بالشمال المالي وحزم الفرنسيون أمتعتهم استعدادًا لسحب العدد الأكبر من جنودهم مستفيدين من الزخم الإعلامي لانتصاراتهم السريعة على الجهاديين.
الدافع الاساسي لاعلان الانسحاب هو المخاوف من الدخول في حرب استنزاف قتالية ومالية قد تكلف الفرنسيين على الصعيدين العسكري والاقتصادي، وهرباً ايضًا من الطقس الذي يمثل العدو الآخر للجيش الفرنسي، في منطقة تعرف بأنها الأكثر حرارة في العالم.
ما كان يأمله الجيش الفرنسي تحقق بنسبة مهمة، فقد تحررت معظم مدن الشمال المالي من سيطرة الجماعات الإسلامية المسلحة وتم القضاء على نسبة معتبرة من المقاتلين بمن فيهم بعض قادتهم، وتمت مصادرة كميات كبيرة من الأسلحة والعتاد وسط بهرجة احتفالية تحت عدسات وسائل الإعلام الفرنسية.
وبعيدًا عن عيون الإعلام وانتصارات الجيش التي يحتاج إليها الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في الرفع من شعبيته المتدنية في فرنسا. تطرح مجموعة من الأسئلة المشروعة والملحة مثل هل انتهت المهمة حقاً؟ وكيف يمكن المحافظة على هذا الوضع ؟ والى أي مدى؟.
قبل أيام صرح الرئيس التشاديquot; إدريس ديبي quot; أن قواته ستنسحب هي الأخرى من الشمال المالي مبررًا ذلك بأن جيشه أدى المهمة المنوطة به ولكنه في الوقت نفسهغير جاهز لمواجهة حرب عصابات تستنفز قوته .
ديبي كان يتحدث بعد العملية الانتحارية التي استهدفت قواته عند بوابة مدينة كيدال في الشمال المالي، والتي أفقدت التشاديين أعصابهم بعد مقتل ثلاثة من زملائهم وكادت تتحول الى معركة مع جميع سكان المدينة بعد أن فتح الجنود نيرانهم في شوارعها بطريقة عشوائية على كل من هبّ ودبّ.
بحث عن مَن يكمل المهمة
غياب قوات ذات تجربة قتالية كالفرنسيين والتشاديين يصعب تعويضه وإن كانت الدبلوماسية الفرنسية تبحث في الجوار عن مَن يكمل المهمة.
فمنذ أسابيع، والمبعوثون الفرنسيون يتوافدون سراً أو علنًا على العاصمة الموريتانية والندوات البحثية والاجتماعات الإقليمية تتوالى تباعًا في نواكشوط لبحث الأزمة المالية وتطوراتها، هذا في العلن، فيما يدفع في الخفاء بما هو أعظم، إذ يراد للجيش الموريتاني أن يحل محل الجيش التشادي وبمساعدة لوجستية من الفرنسيين. ومن دون إظهار الحبكة الاحترافية لهذه الصفقة سارع وزير الخارجية الفرنسي للتصريح علنًا أنه جاء الى نواكشوط لتوقيع اتفاقيات لمساعدة موريتانيا في التكوين المهني والانارة العمومية، وهو ما جلب تعليقات الإعلام الموريتاني المتسائلة عن ماذا يمكن لفرنسا تقديمه في زمن الأزمة إن لم يكن وراء الأكمة ما وراءها؟.
باتت مسألة مشاركة موريتانيا محسومة تحت واجهة القبعات الزرقاء التي حلمت السلطة كثيراً بالمشاركة فيها، بحثًا عن رصيد سياسي وإعلامي في المنطقة، لكن دون أن تجد دعمًا من الجبهة الداخلية التي حذرت أكثر من مرة من مغبة التدخل في أتون الحرب في الشمال.
وجود الجيش الموريتاني الذي عرف الحرب في دروب الصحراء لا يضعه في مأمن من حرب استنزاف، حتى ولو كان صاحب تجربة سابقة في القتال في المنطقة ، إذ هي ذات المبررات التي دفعت جيش إدريس دبي للرحيل.
تحركات الجهاديين
في تلك المنطقة الصحراوية الشاسعة تتداخل عوامل الأزمة وتتوسع، فلا يزال بوسع الجهاديين التحرك في المناطق الحدودية مع الجزائر، ولعل آخرها ما نقلته وكالة الصحافة الفرنسية على لسان ضابط مالي كبير من أن مقاتلي حركة التوحيد والجهاد عادوا الى قواعدهم في مخيمات جبهة البوليساريو جنوب الجزائر.
ودون النظر بعيدًا، يبدو المشهد العام مشوشًا ومتداخلاً، إذ من الصعب النظر الى حل في الشمال المالي دون رؤية شاملة لحل أكبر لمشكلة وجود آلاف المقاتلين المدججين بالأسلحة على امتداد صحراوي واحد ، يمتد الى الجنوب الجزائري ، ولا تحده أي حدود وتتداخل فيه القبائل والمصالح والرؤي العقائدية المتشددة .
وفي السياق ذاته من يدفع بالمصالحة الوطنية في الشمال حيث يبدو التنافر بين القبائل والقوميات في أسوأ أحواله ويبدو ذلك جلياً بين الطوارق- أو على الأصح - جزء من القبائل الطوارقية ، مع المكونات العربية، حيث حمل العرب جميعًا جرمًا لم يقترفوه.
فرنسا تكرر أخطاءَها
ما يحد من آفاق السلام في المنطقة ويعيق الحلول السلمية للأزمة المالية، أن فرنسا وهي تقود عمليتها العسكرية خلقت دينامية داخلية تعيد تكرار أسباب تدخلها، وهي بذلك تكرر الأخطاء ذاتهاالتي رافقت الاستعمار قبل أكثر من خمسة عقود، حين اعتمدت على من يوافق مزاجها العام، مصدقة ما يقدم إليها كونه الحقيقة. وسيرتكب المجتمع الدوليالأخطاء ذاتهافي المحافظة على ما تحقق في المنطقة، حين ينظر الى الشمال المالي نظرة جزئية متلافيًا حقائق الجغرافيا والتاريخ والانتروبولوجيا التي تجزم أن منطقة الصحراء الكبرى هي منطقة واحدة لا يمكن للحلول فيها أن تتجزأ، وأنه حين تعطس quot; تمبكتوquot; تصاب quot;تيندوف quot; بالزكام.
كاتب متخصص في الشؤون الأفريقية وفي منطقة الساحل