من الطبيعي أن تتعارض الأفكار المختلفة وتتقاطع على إعتبار أن هناك أفكار جيدة وأفكار أخرى سيئة، أما إذا تعارضت الأفكار الجيدة مع بعضها فالموضوع يحتاج لشيئ من التأمل. نعم، ربما فقط في عالمنا العربي تتعارض الأفكار الجيدة مع بعضها البعض بشكل مثير للشفقة. أن الديمقراطية والحرية يكمل أحدهما الآخر، فلا ديمقراطية بلا حرية ولاحرية بلا ديمقراطية، لكن، ومن سخرية القدر أن الديمقراطية التي ننشدها في التغييرات التي تعصف بعالمنا العربي والمنطقة تتعارض مع الحرية بشكل يثير السخرية ويرسم صورة كاريكاتيرية للمفارقات التي نسجلها في حياتنا اليومية والتي تظهر يوميا ً على جميع وسائل الإعلام المختلفة. أن من محاسن الديمقراطية أنها جعلت الناس تتحرر من الدكتاتوريات المختلفة ولكنها في نفس الوقت أوصلت الإسلاميين إلى السلطة في تركيا ومصر والعراق وإيران وهم الذين يواصلون قمع وتقييد الحريات العامة وتقييد وسائل الإعلام وحق التظاهر، بل وصل الأمر إلى إقصاء الآخر بإستخدام الفتوى التي تتيح لهم تصفية وقتل المعارضين. فهل تعارض الديمقراطية فعلا ً فكرة الحرية كما نشاهدها اليوم؟

أن من المبادئ الأساسية في عالمنا اليوم أن الأفكار لاتأتي محلقة لوحدها وإنما تهاجر كالطيور أسرابا ً فتحط كل يوم في مكان ما. فالديمقراطية التي رفعناها شعارا ً في الربيع العربي لاتأتي لوحدها بل تأتي معها الأفكار الليبرالية وأفكار إقتصاد السوق الحر وفكرة المساواة وفكرة التعددية واحترام الأقليات والهويات الفرعية. أن الديمقراطية اليوم في أغلب البلدان العربية، تلك التي أوصلت الإسلاميين إلى السلطة هي ضد أغلب تلك الأفكار التي لابد أن تصاحب الديمقراطية كالحرية والمساواة والتعددية. فالديمقراطية في عالمنا تقوض الحرية وهامش الحرية بدوره يقوض الديمقراطية بإيصاله لمن يريد أن يقوض الديمقراطية إلى السلطة. أن الديمقراطية كآلية لتنظيم إدارة وتوزيع السلطة لايمكن أن يكون نافعا ً بلا حرية والتي بدورها تحول الديمقراطية إلى ثقافة تبدأ من البيت والمدرسة ولاتنتهي إلا بصناديق الإقتراع.

لم يؤمن الإسلاميون الجدد، وهم الذين وصلوا للسلطة بفضل الديمقراطية بالديمقراطية كثقافة بل فقط كآلية للوصول للسلطة، كما لم يؤمن الأسلاميون القدامى في بداية هذا القرن بالديمقراطية لاكآلية ولا كثقافة حتى. فأدبيات أغلب الحركات الإسلامية تخلو من مفردة الديمقراطية منذ بداية القرن وحتى بعد نكسة حزيران أمام إسرائيل عام 1967 بعد أن برزت تلك الحركات الإسلامية كبديل لمشروع النهضة العربية. أن السبب الرأيسي في عدم توافق الديمقراطية مع ما تحمل كل التيارات الإسلامية من أفكار هو أن الديمقراطية في جوهرها تعني حكم الشعب والذي يتعارض مع فكرة الحاكمية لله من خلال أولياء الأمور والتي تطبع أفكار أغلب الحركات الإسلامية بأحزابها. وعلى هذا الأساس قام الإسلاميون الجدد بسلخ فكرة الديمقراطية من فكرة الحرية ليحولوها إلى آلية فقط وليس كثقافة مما جعلهم يقعون في تناقضات مابعد الوصول للسلطة بخلط الدين بالسياسة بشكل فج وفاضح فترى الرئيس مرسي يدعو للجهاد متجاوزا ً قوانين الدولة وترى المالكي يحاول كسب ود المرجعيات الدينية لضمان بقائه في السلطة. فحالما يصل الإسلاميون إلى السلطة ليبدؤوا بقمع الحريات العامة وتقييد الصحافة وتغيير الدستور. على العكس، هذا لايعني بأن الديمقراطية كثقافة تتعارض بالضرورة مع الإسلام كثقافة بل هي تتعارض مع الفكر السياسي الإسلامي بشقيه السني والشيعي.

أن الشيئ الذي ربما يكون الوحيد المقبول مع فكرة الديمقراطية لدى الإسلاميين هو الفكر الرأسمالي وفكرة إقتصاد السوق بالتحديد. ولاعجب في ذلك إذا ما عرفنا أن أصل الفكر الرأسمالي موجود وربما مأخوذ من الأخلاق البروتستانتية الصارمة كما يدعي ماكس فيبر. فالإسلاميون الجدد الواقعيون، وهم على العكس من الإسلاميين الرومانسيين الذين سبقوهم في هذا القرن، يدعمون سلطتهم من خلال هظمهم لأفكار الليبراليين الجدد من تحرير القيود التجارية وفتح الحدود للإستيراد والتركيز على التجارة الخارجية من خلال الإرتباط بالمؤسسات المالية العالمية كصندوق النقد الدولي وغيرها. وترى أن من يقف خلف أؤلئك الإسلاميين الجدد طبقة من صغار التجار وهم يتسلقون جدار الغنى ليحلوا محل التجار الكبارالتقليديين. حيث تجد أن أصحاب السلطة من المتدينين في أيران وتركيا ومصر والعراق والسعودية وقطر من التجار وهم يرعون بدورهم حلقات تتسع من أصحاب التجارة ممن يستفيدون من قربهم لأصحاب السلطة. ففي العراق أن من يقف خلف الطبقة المتدينة الحاكمة تجار يتحكمون بكل الصفقات ويمسكون الأسواق بتجارتهم بالخصوص في الشورجة و مدينة النجف وكربلاء والكاظمية بما تحمل تلك المدن من قدسية ومنفعة تجارية وفي نفس الوقت يدفعون الخمس للمؤسسة الدينية لشرعنة تجارتهم. أما في إيران فهناك رفسنجاني وما خفي كان أعظم، وفي تركيا كان صعود نجم أردوكان بعدما أنعش تركيا إقتصاديا وليس دينيا ً وما كان سبب المظاهرات الأخيرة إلا الأصرار على بناء مجمع تجاري ضخم في وسط أسطنبول، وفي المملكة العربية السعودية ترى العمل جار على قدم وساق في توسعة الحرم المكي وتحويله إلى مركز تجاري ضخم على حساب آثار إسلامية عمرها أكثر من ألف سنة، وفي مصر إنحاز الأخوان لجهة الليبرالية والرأسمالية بعدما أعلانهم الوقوف في المعسكر الأمريكي فيما يخص سوريا.

ولما لا وأن الفكر الإسلامي قدر التجارة وذكر القران التجارة مرات عديدة بإعتبار أن أصحاب مكة من التجار حتى أن القرآن يعامل المحسنين والمسيئين من المسلمين معاملة التجار في الثواب والعقاب في آيات كثيرة. لكن العجب أن الإسلاميين الجدد نسوا كثير من الآيات والمادئ الإسلامية التي تدعوا إلى المساواة وتقليل الفوارق الطبقية ومحاربة الفقر إذ لم تكن من أولوياتهم قط. فعلى نهج الرأسماليين والليبراليين الجدد أصبح الإسلاميون الجدد من أصحاب السلطة والتجارة معا ً وبوجودهم زادت الفوارق الطبقية وتقلصت الطبقة الوسطى في العراق وأيران ومصر وتركيا، حتى أن الإحتجاجات في الأخيرة أصلها وجوهرها طبقي أكثر منه تعارض بين الكمالية وأسلمة المجتمع.

إذن، هل مازالت فكرتا الحرية والديمقراطية تتعارضان في بلداننا مع وصول الإسلاميين؟ بالتأكيد نعم، مالم يتم إعادة النظر أو بالأحرى إعادة قراءة التراث بما يتلائم مع الديمقراطية كثقافة وليس كآلية للوصول للسلطة فقط، على الإسلاميين بكل أطيافهم مراجعة أدبياتهم في الفكر السياسي ليتلائم مع مفهوم الحرية والتعددية والمساواة وحقوق الإنسان، تلك الأفكار التي تأتي مع الديمقراطية لتحولها إلى ثقافة وليس لآلية فقط. أما إذا لم يحدث هذا فسينتظر الإسلاميين حينها ثورة جديدة على أساس طبقي، ثورة على الرأسمالية مطالبة بإصلاحات اقتصادية وليست سياسية فحسب كما يحدث في تركيا والبرازيل واليونان وغيرها من البلدان التي تعاني من الفوارق الطبقية وهيمنة الأفكار الرأسمالية بقيادة الليبراليين الجدد.

[email protected]