وتتوالى الإشاعات المغرضة يقولون أن هناك غيرنا على الاطراف، وأنهم كثيرون، وهم يلبسون النعال..وهم يفكرون ويقرأون ويكتبون، ثم تتوالى الهواجس المفزعة ماذا نفعل لو اقتربوا؟ ماذا لو رآهم نسائنا؟ ماذا لو رآهم أطفالنا؟ ألم نقل لهم انه لا يوجد غيرنا في الكون، هل كنا نكذب ؟هل كذب علينا الاولون؟اليس هذا تراثنا الازلي أنه لا يوجد غيرنا في الكون ؟ نحن الان حائرون، ثم تتوالى التساؤلات ولا من مجيب هل يوجد غيرنا في الكون؟ ومن هؤلاء؟ وبماذا يدينون ؟وبأي لغة يتكلمون؟ وماذا يريدون منا؟ وماذا يعرفون عنا؟ كنا نظن ان الكون نهايته خط تماس الرمال مع الافق، فماذا لو اتسع الافق؟ الان نحن في خطر إذا اتسع الافق، فلايجب ان يوجد غيرنا في الكون. هذه هى ثقافة الهواجس المرضية المغذاه من كل الروافد وعلى رأسها الرافد الرئيس وهو التيار الرجعى المهيمن بإمكاناته النفطية على أفق الفكر فى هذه المنطقة المنكوبة، هذا هو محتوى المخيلة السقيمة المترسب فى العقول المتحجرة عن الآخر الاجنبى الكافر الملحد الذى يتعاملون معه بمنطق الضرورة التى تبيح المحظور، أو بمنطق سبحان من سخر لنا هذا وذاك والآخرون،هذا ليطعمنا، وذاك ليسقينا، والآخرون يصنعوا لنا السيارة والطائرة والهاتف النقال، بينما نحن على الارائك متكئون نرفل فى الابيض الفضفاض لحانا مشذبه ونلاطف ماملكت أيماننا،هذا هو المنطق الذى غيبوا به عقول أمة بأسرها أوقفوا نموها الحضارى والثقافى والاقتصادى والاجتماعى وعطلوا تواصل الرابطة الإلهية المقدسة بينها وبين بقية البشر على كل الكوكب، عطلوا الرابطة الانسانية التى هى الرابطة الأم السابقة على كل الروابط الاخرى غيبوها عن عقول الشعوب بدعوى حمايتهم وتحصينهم، لكن الهدف الخبيث كان هو عزلهم عن الدنيا كلها من دون استثناء خشية أن يتمردوا، وفات هؤلاء الذين تجمدوا عند القرن السادس أن الافق اتسع اتساعا هائلا، والمسافات تلاشت تماما وبينما هم ههنا قاعدون تسللت أفكار وابداعات وابتكارات الاجنبى الكافر الملحد وغزت غرف النوم وتلقفها الشباب النهم للمعرفة الحقيقية القابع خلف الشاشات الكريستالية، تلقفوها منتجات من التكنولوجيا المبهرة وهى منتوجات التحرر والحضارة والمدنية التى صوروها له على أنها رجس ومعصية وزندقة وخروج عن الملة وعن طاعة ولى الامر، لكن هؤلاء الشباب كانوا يعلمون أن كل هذه الترهات التى لا يمل المنظرون الكبار من ترديدها وضخها ليل نهار قسرا فى عقولهم هى مكلمة فاسدة، مكلمة جربوها سلفا وذاقوا نتائجها الكارثية على كل قضايا هذه الشعوب المنكوبة، مكلمة كلها تباديل وتوافيق من تعبيرات العنعنة المكررة والممجوجة، مكلمة يستدعون فيها نفس الاصوات الزاعقة وكان البشر مازالوا فى الصحراء ويستدعون نفس الازياء وكأن البشر مازالوا يركبون الإبل، إلا أن أجيالا شبت على غير هواهم، وعلى غير ثقافتهم وعلى غير نمطهم فى الحياه، أجيالا اخترقت عوالم الحداثة والتقنية، بينما الكبار منشغلون بسيرة زواج الجن بالإنسية والعلاج بالوهم وصراعات المفتين، وحسمت هذه الأجيال الصراع النفسى الهائل التى عانته بسبب هؤلاء الذين ضخوا فى عقولهم الغضة أكاذيب مجتمعات التعالى والتفوق والتمايز العرقى والدينى والمذهبى، حسموه لما شبوا عن الطوق ورأوا بأعينهم حجم الكذبة الهائلة التى تعرضوا لها وعقدوا المقارنة التاريخية الحاسمة واكتشفوا الحقيقة المرة، فهذه مجتمعات فاسدة يتوارثها حكام فاسدون مجتمعات متخلفة منقسمة لا تنتج حتى ما تأكله، حتى الثروات التى منى بها بعضهم بتصاريف القدر لم تستطع إلا أن تزيد الهوة اتساعا بين الغنى الفاحش والحياه تحت خط العدم، مجتمعات راكدة كمياه البرك التى أسنت،لاثقافة ولا فنون ولا معرفة ولم يجد هؤلاء الشباب حلا سوى الانفجار فى وجوه مجتمعاتهم ويتسائل الناس عما هو القاسم المشترك بين ما حدث ويحدث وما سيحدث فى تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا وكل هذه الشعوب المرتهنة دون استثناء، والاجابة على هذا التساؤل ببساطة هو عامل الجمود والتحجر وانسداد شرايين التغيير، التغيير الذى هو سنة حياه سنها الخالق دورة حياه لكل الكائنات والمجتمهعات، دورة حياه تبدأ وتنتهى فى ديناميكية متناغمة سنة التغيير الازلية التى تطول الجميع شخوص وآراء وأحداث ومواقف ونظريات وتحليلات وعقائد ودول وأحلاف، وحتى النبات والحيوان كلها خاضعة لسنة الكون وخالقه فى الغداة والرواح، أى التغيير والتحول والتنوع المثرى، أما أن يجثم على صدرك حاكم لنصف قرن فذاك شر البلية التى ابتليت بها هذه الشعوب المغلوبة، فتارة يتوارثوهم بتأويلات ترتكن إلى العقيدة وتارة بتأويلات ترتكن إلى التاريخ، وأخرى إلى الجغرافية، وتتحول الشعوب إلى قطعان يتوارثها الابناء من الآباء ليسوسونها بالعصى الغليظة وآلات القمع الوحشية. وكعادتهم فى الملمات يبتكر المصريون ماقد يعينهم على عبور لحظات الاسى، والطرفة الشائعة هى (قوم ثاروا وآخرون قبضوا ) فقد انهمرت الريالات والليرات والدنانير على شعوب كى تظل قانعة وخانعه، وتحت وطأة الفقر تنحنى لالتقاط ما يلقيه السادة ولاة الامور من فتات موائدهم كى يضمنوا بقاء شعوبهم على هذه الحالة المزرية راكعين يلتقطون العملات المتساقطة،أو بالأحرى الثروات التى هى بالأصل ثرواتهم المنهوبة وهم ملاكها الأصليين، وبالطبع السادة ولاة الامور على استعداد دائما للضخ عند أى بادرة للنهوض فلا شك سيعود الناس منحنين على وقع صوت رنين العملات على الأرض،أما من يأبى إلتقاط هذه الرشا فعلاجه الوسيلة الثانية، الوسيلة الناجعة المجربة لعشرات القرون وهى وقع صوت الفتاوى، فالوسيلة الاولى وهى الريالات رفضها جزاؤه البقاء فى دائرة الفقر، أما الوسيلة الثانية وهى الفتاوى فرفضها جزاؤه أكبر بكثير وهو الخروج من دائرة الايمان، وربما تنجح هاتان الوسيلتان (بالطبع بالاضافة لوسائل القهر التقليدية) لعقد قادم، لكن ترى هل سيستقيم بعد ذلك استمرار بقاء نظم تقنن توارث الشعوب تحت اى مسمى وبأى مبرر؟ إلا إذا أوقفوا تروس عجلة الزمن التى دهست فى طريقها كل من تباطئ ولم يلحق بموكب الحضارة. إن هؤلاء الواقفين ضد عجلة الزمن لايتعظون والعجلة التى تتسارع كل يوم وهى ستدهسهم عاجلا أو آجلا، فهؤلاء الشباب قبضوا على لحظة الحقيقة التى ظهرت فى الافق كومضة أشعلها ذاك الشاب التونسى البائس عندما جعل من جسده شعلة كشعلة أولمب، وهى تطوف الآن بكل المناطق الموبوءة بالظلم والقهر والعنصرية، تطوف لتنير سبيل هؤلاء الشباب إلى طريق العتق من القهر والعبودية، وبينما يتشبث الحكام بكراسيهم التى اقترب بعضهم من اكمال خمس عقود قابعا فوقها دون حراك ويطمع فى المزيد، وهو زمن نهضت فيه أمم من العدم، وأصبحت تحتل مكانه بارزة نهضت الصين ونهضت اليابان ونهضت كوريا ونهضت ماليزيا ونهضت سنغافورة واتحدت أوربا وشعوب كثيرة فى كل بقاع الارض انفتحت على الدنيا وتخلصت من هواجس الغزو والتبشير والكائنات الغريبة التى تحوم على الأطراف ليل نهار تتآمر لغزونا ومحو ثقافتنا وعقيدتنا، وتوقف الزمن بهؤلاء ارتكانا على شماعة المؤامرة،ونعود الى الشاب البوزيدى ألذى أوقد الشعلة وعلى ضوئها استشرف أقرانه فى مصر صورة المستقبل وهبوا فى تسونامى رهيب مكتسحين كل رموز وأصنام الماضى، لكن قوى الشر المتربصة استشعرت الخطر القادم وهبوا ليطفئوا شمس الحرية التى أشرقت بعد احتجاب طويل، فنجاح الثورة فى مصر بالذات سيكون كارثة على مموليهم ورعاتهم الذين زرعوهم خصيصا كنواطير، فالتغيير الكاسح سيدفع للتفكير وهو أمر جد خطير أن تعود العقول لاستعمال الهبة الالهية التى تميز الانسان عن الحيوان وهى التفكير، التفكير الذى لاشك سيكشف تلك الغمامة السميكة التى تمنع الانسان من الخروج عن المسار المحدد له سلفا من باب رحم أمه حتى باب القبر باعتباره كائن ناقص الاهلية لا يستطيع أن يميز بين الخير والشر، التفكير الذى فتح عيون الشباب وهبوا رافعين راية إحياء قيم الرابطة الانسانية النبيلة التى افتقدوها فى خضم بحر هائج من الشعارات والتأويلات الطائفية والعنصرية البغيضة المسيسة لمصلحة حكام طغاه، هب الشباب رافعين شعارات التآخى والتعاون والمحبة لتصحيح الصورة المشوهة لهذه البقعة الطاهرة من الكوكب باعتبارها مزرعة تفريخ للإرهابيين الذين يدبرون لتدمير الحضارة الانسانية، ومزرعة للفتاوى العنصرية التى استعدت علينا كل الشعوب، ولن يهدأ بال أنظمة في المنطقة حتى يطفئوا شمس هذه الثورات الوليدة بسكب براميل الزيت لإشعال الفتن النائمة، وفتح صناديق الريالات لإطفاء الهمم التى استيقظت، وبين براميل الزيت وصناديق المال تكاد تضيع أحلام انتعشت وآمال ابتعثت بعد موات، لكن ترى هل يستطيع حلف ورثة الشعوب أن يطفئوا الشمس؟ أم ترى سيحرقهم لهيبها المتصاعد الذى بات يحاصرهم من كل إتجاه،عزيزى القارئ هل تشاركنى هذه الهواجس؟