تخرجت من كلية الهندسة وعمري 21 سنة وتم تجنيدي في نفس السنة في الجيش المصري ومكثت في الجيش المصري ست سنوات حضرت خلالها حرب الإستنزاف 1970 وحرب أكتوبر 1973 ، وكنت أعتبر أن الست سنوات التي قضيتها في الجيش من سن 21 وحتى سن 27 سنوات ضائعة من عمري وأحلى سنوات الشباب، ولكني بعد مرور سنوات عديدة بدأت أقيم تلك الفترة تقييما موضوعيا، وبدأت أرى مميزاتها وما تعلمته خلالها:

فأولا : نجوت والحمد لله من الموت على الأقل مرة واحدة أثناء حرب الإستنزاف وثلاث مرات أثناء حرب أكتوبر، والمسألة ليست شجاعة منى أو حنكة عسكرية ولكنها كانت مجرد حظ ودعاء الوالدين، فقد كنت أفضل حظا ممن إستشهدوا من زملائي أو من أصيبوا بعاهات مستديمة
ثانيا: آمنت إيمانا جازما بالسلام، وأصبحت أكره أي نوع من الحروب، مهما أطلق على تلك الحرب، سواء حربا وقائية أو حربا من أجل السلام أو حربا من أجل تحقيق الديموقراطية أو حربا أهلية أو حربا لتحقيق نصرا إلهيا، كل أنواع الحروب أكرهها لأن عادة من يشعلوا نار الحرب لا يكتوا بنارها، لا هم ولا أولادهم ولا بناتهم، فقد كنا في الجيش الثاني على جبهة قناة السويس مجموعة من أبناء الغلابة المصريين، أما quot;أولاد الناسquot; الذين تم تجنيدهم فكانوا في أعمال إدارية في مكاتب الجيش بالقاهرة والأسكندرية، فأولاد الغلابة هم وقود كل الحروب في العالم والقادة عادة يحصلون على النياشيين، لذلك كنت من أشد المدافعين والمرحبين بمبادرة السادات العبقرية للسلام مع إسرائيل
ثالثا: تعلمت من الجيش الإنضباط، وحتى اليوم، فما زلت أصحو مبكرا وأنام مبكرا في معظم الأحيان، وتعلمت الإلتزام بالمواعيد والجداول الزمنية، حيث كان لنا جداول تدريب زمنية صارمة، وتعلمت أيضا أنه لا يمكن أن يكون هناك جيش قوي بدون إنضباط، أيضا تعلمت أنه من الإستحالة بمكان أن تنشأ حضارة بدون إنضباط وإلتزام بخطط واضحة وبالقوانين
رابعا: تعلمت الدقة في تنفيذ الأوامر والطاعة العمياء لمن هم أعلى مني رتبة، وفي الجيش يقولون نفذ الأوامر أولا ثم تظلم لقائدك إن كان لك إعتراض على الأمر، ولكن لابد من تنفيذ الأوامر فورا، فمثلا عندما كنت أقود فصيلة صغيرة لزرع ألغام أفراد حول القاعدة العسكرية التي كنا نعسكر فيها، لم يكن ليجرؤ أي من الجنود على مخالفة الأمر أو التغيب عن واجب زرع الألغام بحجة أن زرع ألغام الأفراد عملية خطيرة، وعندما كان قائدنا يعطينا الأمر لتنفيذ مهمة محددة، كان يعرف وكنا نعرف أن هذه المهمة ربما تودي بحياتنا كلنا أو بعضنا، ولكنا كنا ننفذ الأوامر بدون نقاش.
خامسا: إحترمت الزي العسكري الذي كنت أرتديه على بساطته، وكنت فخورا بوضع شارة حمراء على كتفي لكي تدل على أنني تابع للجيش الثاني الميداني، وكان أفراد الجيش الثالث الميداني يضعون شارة خضراء.
سادسا: تعلمت العمل الشاق في أي ظرف من الظروف الجوية أو الحربية، فقد عملنا وقمنا بتنفيذ مهام تحت قصف الطيران الإسرائيلي، وفي عز الحر وفي عز البرد، ومازلت أعمل عشر ساعات سنويا وأنا في هذا السن، لأنني تعلمت من الجيش بأن العمل الشاق هو السبيل الوحيد للنصر.
سابعا: تعلمت أن التعليم وعرق التدريب يوفر الكثير من الدماء أثناء المعارك، وكنا نأخذ التدريب بجدية كبيرة، ولهذا أبهرنا العالمى بأدائنا في حرب أكتوبر 1973
ثامنا: تعلمت أن أنسى نفسي وأعمل بروح الفريق وبدون روح الفريق لا يمكن تحقيق النصر
تاسعا: كونت علاقات حميمة مع رفقاء السلاح وما زالت هذه العلاقات قائمة، فعلاقة رفقة السلاح لا يدانيها سوى الأخوة الصادقة
.....
وحياة الجيش لم تخل من مواقف طريفة.
وأذكر في أول أسبوع لي في الجيش كنا في مركز التجنيد بالحلمية بالقاهرة، وقاموا بتسليمنا المهمات وملابس الجندية ووضعناها في شنطة رأسية عميقة تسمى quot;المخلةquot; وقالوا لنا يجب أن نحافظ على تلك المخلة لأن من يضيع مخلته كأنما يضيع شرفه ثم أنه سيحاكم محاكمة عسكرية، ثم وضعنا المخلة في مخزن ووضع كل منا أسمه على المخلة وقفلناها بقفل محكم، وإنتظرنا بضعة أيام مندوب السلاح الذي سوف يأخذنا من مركز التجنيد إلي مركز التدريب الرئيسي، وكل يوم نحضر من منازلنا إنتظارا لهذا المندوب، وذات يوم حضرت من المنزل بملابسي المدنية وذهبت إلى المخزن لكي آخذ ملابس الجندية من المخلة، وفوجئت بإختفاء المخلة تماما، وقلت يا نهار اسود لقد ضاع شرفي العسكري في أول اسبوع لي في الخدمة العسكرية، وسوف أذهب فورا إلى المحاكمة العسكرية، وإحترت ماذا أفعل؟؟ ثم ذهبت إلى الشاويش المسئول عن المخزن وأنا أرتعب خوفا من مواجهته، ثم إستجمعت شجاعتي كلها وقلت له:
- يا أفندم أنا مش لا قي المخلة بتاعتي
- بتقول إيه ؟ نهارك اسود! محاكمة عسكرية فورا
- أنا عارف يا أفندم
- ما أعرفش أعمل إيه فيك؟ لكن إنت باين عليك غلبان وإبن ناس طيبين
- آه والله يا أفندم طيبين قوي
- طيب، أنا حا أقولك حاجة تعملها ولا مش شاف ولا من دري
- أنا في عرضك يا أفندم
- روح خد أي مخلة من المخزن ما يكونش عليها أسم وحط عليها اسمك
- يعني اسرق مخلة يا أفندم
- تسرق إيه يا بني آدم، الجيش المصري ضاعت منه مخلة واحدة من أيام محمد على باشا، واللي حتاخد مخلته، بكرة حييجي يشتكي لي وأقول له ياخد أي مخلة تانية وهكذا حتى يوم القيامة!
وقد كان قمت بتنفيذ أوامر شاويش المخزن وأخذت أقرب مخلة في المخزن لا يوجد عليها أسم وكتبت عليها اسمي، وهي نفس المخلة التي قمت بتسليمها عند خروجي من الجيش عام 1974!!
وتابعونا على تويتر
@samybehiri