أين مصر؟ مصر التي كانت تنتظر ليلة رؤية هلال رمضان بكل شوق، وكأنها عروس تستعد لاستقبال فارسها، فترى الشوارع وقد تزينت بالأوراق الملونة والفوانيس الضخمة المبهجة، وموجات القرنفل والقرفة والبهارات تتنافس لتعطر نسمات الطرقات، وأغنيات ترقص القاهرة على نغماتها تنطلق من كل مكان، من السيارات والبيوت والمحال quot;وحوي يا وحويquot;، quot;رمضان جانا وفرحنا بهquot;، quot; يا فرحة رمضانquot;، وعندما تجتمع هيئة العلماء يجتمع الكل حول التليفزيون، ورغم أن رمضان لا يأتي مصادفة ولا مفاجأة، إلا أن المصري دأب ألا يقوم بشراء الفول- ولازم يكون من القدرة- والزبادي، والخبز البلدي - وخاصة المفقع- ومستلزمات الصيام، إلا عندما يعلن المفتي أن رمضان غدا، فجأة تجد الشوارع وقد طرحت مصريين، يركضون، يزدحمون بسياراتهم، ترى السعادة على وجوههم، ولا يضايقهم الزحام، بل يجعلهم في حالة نشوى وإحساس بالمشاركة، وكثيرات من الأمهات كن يفضلن تدميس الفول بالبيت لتفوح رائحته ليلة أول يوم بما يعلن بدء الصيام، ولا تنسى الأم أن تخرج طقم الحساء الجديد الذي إشترته من يومين، وهي عادة مصرية أيضا، فلابد مع نهاية شهر شعبان من شراء طقم حساء جديد أو طقم خشاف، أو عدد من الأكواب الخاصة بالعصير، تصف الأم الأكواب والأطباق وهي تبتسم فهي تتذكر ما حدث وقت شرائها، ونفس الحوار الذي يدور كل عام، فالزوج يسأل بكل براءة: ألا نمتلك طقما للحساء، فترد هي بكل عشم: إنها عادة ولا ينبغي أن نقطعها، ليتأكد أنه وقع في الفخ، ولابد أن يتصرف كرجل جنتلمان، فيدخل يده في جيبه لتخرج بيضاء بغير سوء، ويأتي اليوم الأول لتتكرر أمامك عبارةquot; اللهم إني صائمquot; فهذه تتكلم مع صديقتها عن أخرى، ثم تقول اللهم إني صائمة، وهذا ينهر من حاول مضايقته أثناء قيادة السيارة ثم يكررنفس الجملة، وكأن المصري يسعد ويشعر بالفخر لأنه يغير سلوكه طلبا من الله أن يتقبل صيامه، ولابد أن تسمع كلمةquot; الساعة الضيقةquot; والتي أتصور أنها تعبير مصري صرف، فقبل الإفطار بساعة تجد كثيرين وقد صارت أرواحهم معلقة فوق أنوفهم لا يتحملون النسمة لو حاولت العبور أمامهم،، فيرددونquot; إبعد عني يا بني في الساعة الضيقةquot; والمصري يفرح أيضا بهذا التبرير، لأنه يشعر بكبح غضبه حتى يصح صيامه، ولكن هناك سببا آخر، يمارسه المصري بهذه الجملة وهو لا يدرك، فهو بهذا التعبير إنما يعلن أنه صائم، ويسمع صوته وهو يؤكد له أنه فعلا صائم، المصري معجب بنفسه، ويحب أن يعلن عن أعماله الجيدة، ثم أن هذه الجملة أيضا تعطيه أملا أن الإفطار قد إقترب، فهي ساعة واحدة متبقية، ثم يأتي الإفطار، الكل في شرفة بيته، وهي عادة مصرية صميمة، فالمصري يتصور أنه لو لم يخرج الشرفة فالمدفع لن يضرب، الأم في مطبخها تعد أشهى الأنواع، الأولاد مشغولون، هذا يعد الشراب، وهذا يحضر الحلوى، وهذه تحضر المائدة، بينما تنشغل الأخرى في تجهيز مكان الصلاة، وصوت قرآن المغرب له حلاوة خاصة في آذاننا، ثم الصورة الشهيرة للمدفع، والجملة الأكثر شهرة، نحن الآان في انتظار مدفع الإفطار، ويضرب المدفع، ويرفع الآذان، وتشم رائحة الينسون وانواع الحساء، وتدور صحاف التمر وتأتي المذيعة لتقول أيضا أشهر جملة رمضانية مصريةquot; وانطلق الآن مدفع الإفطار نرجو لكم صوما مقبولا وإفطارا شهياquot;. في الشارع شباب صغار يوزعون التمر والماء على المارة والسيارات،،، وموائد ممتدة بها أجمل المأكولات، تنتظر كل من يأتي، تشعر أن الشوارع صارت صديقة، لم تعد غريبا عنها، والبيوت تضئ مصابيحها وتضيئ فرحتها، العيلة تجتمع أول يوم،فهو طقس مقدس، ويبدأ الدعاء ثم الإفطار والصلاة، صلاة المغرب في رمضان تختلف فهي ذات الطعم الخاص جدا الذي لا ننساه مهما كبرنا وباعدتنا الأيام، فالأب أو الجد أو الأخ الأكبر يقوم بدور الإمام، الأسرة كلها مجتمعة خلفه، ينادي زوجته التي إنشغلت في صب الشراب على صينية الكنافة الساخنة، شباب الأسرة كلهم يجتمعون خلفه، والبنات خلفهم، ولابد في كل عائلة أن تكون هناك فتاةquot;مشاكسةquot; وتسأل، لماذا لابد أن أقف في الخلف؟ سأقف في الصدارة، يحاولون إفهامها، لا تقتنع، لكنها تقف في الصف غير مقتنعة، فهي تريد ثواب صلاة الجماعة، وتنتهي الصلاة، ويتحلق الجميع حول مائدة تضم قلوبهم قبل أن تضم أطباقهم، quot;خد دي والنبي، حلوة قويquot;، quot;لا، لازم تاكلي أنا واقفة طول النهار في المطبخquot;.. quot;طيب شوف الحتة دي من إيديquot;، وتنتهي حفلة الإفطار ليبدأ مهرجان الحلوى والشاي والقهوة، وطبعا السجائر لمن يدخن، وتصبح الشرفة ملاذا لمن يدخنون بدون علم آبائهم، ثم يفتتح الصغار حفلا من نوع آخر، فوانيس رمضان بألوانها وأصواتها، ويتنشر الجميع، من يستعد للذهاب إلي المسجد حيث صلاة التراويح، من يستعد للخروج مع الاصدقاء، من يجهز نفسه لمتابعة التليفزيون، ومن يدلف لغرفته يحصل على قسط من الراحة بعد الإفطار، وكثيرون يشرعون في ارتداء ملابسهم للذهاب الي أعمالهم، دنيا جميلة كنا نحياها، تفاصيل تطرز القلب بالفرحة وتجعل لرمضان بهجته الخاصة، السهر، الصلاة، التهجد، الخروج مع الاصدقاء، الإجتماع على المائدة، أشياء كثيرة كثيرة، إفتقدناها، إفتقدنا حتى طعمها هذا العام، حتى ما نصر على أدائه، نؤديه ونحن نعلم أننا لا نشعر به، الإجتماع على المائدة كله كلام عن الأوضاع الحالية وماذا تخبئ الأيام، الحلوى صرنا نتناولها لنحاول أن نبدد مرارة القلق، حتى المقاهي التي كانت تشهد إجتماعات الأصدقاء، والأحاديث والسمر، صارت مقاعدها تنتظرهم، هم يجلسون عليها، لكنهم ليسوا من تعرفهم، حتى قراءة القرآن، من عادات المصريين التي يحرصون عليها دائما، قراءة القرآن في رمضان والعمل على ختمه أكثر من مرة، لدرجة أن شباب كثيرين وبنات يتسابقون من سينجز أكبر عدد قراءات، ما حدث هذا العام عجيب، كثيرون جدا لم يختموا القرآن ولا مرة واحدة للآن، وهم في دهشة من أمرهم، وتزداد دهشتهم عندما يعرفون أن غيرهم يعاني نفس المشكلة ثم يتردد السؤال quot;إيه هو ربنا غضبان علينا ولا إيه؟quot; ويشعرون بالقلق أن تكون الإجابة بنعم، روحانيات رمضان ليست ككل عام، إحساس المصريين بنفحاته ليست مثل كل سنة، ترى ما هو السبب؟ أعتقد أن ما يحدث من قتال وصراع ومفاجآت محزنة صار يلون الأيام بعد أن كانت فوانيس رمضان يحملها الأطفال هي من يلونها، أين فوانيس رمضان؟أين صوت عبد المطلب بأغنيته الشهيرة تملأ البيوت quot;رمضان جانا وفرحنا بهquot; إننا نسمعها، لكننا لا نشعرها، لا نشعر بنفس الفرحة لدى تسلل كلماتها إلى أرواحنا، صوت الرصاص هو ما صرنا نميزه. أين أطقم الخشاف والحساء الجديدة؟ وكيف نتذكرها و معظم المصريين كانوا في بداية رمضان مشغولين أكثر بشراء بخاخات الدفاع عن النفس!. أين بهجة ليلة الرؤية؟ حتى الاحتفال الذي كان يقام لها فيضفي عليها بهاء وقداسة لم تتم إقامته فمرت كأي ليلة. فرحنا بقدوم رمضان، لكنها فرحة معتقلة بين الصدور، فرحة نفعية إلى حد ما، فقد اعتبرنا أنه فرصة للدعاء حتى يخلصنا الله مما تمر به البلاد، ولأنها فرحة نفعية فقد فقدت اكبر قدر من حلاوتها. لقد بدأ رمضان مع إضطرابات عانتها مصر، فأصبح الأطفال يشترون الأعلام للإشتراك في المظاهرات، ولا يتذكرون الفوانيس، حتى الزينة التي كانت تعلق كل عام على البيوت، تقلص حجمها، وإذا صادفتها في أحد الشوارع فستشعر أن من علقها إنما وضعها من باب الواجب، وحتى quot;لا يكسر العادةquot; كما يقولون، ستشعر فورا بأن وجودها لا يبهرك كما كان يحدث من قبل. وعلى أعتاب العيد أتساءل هل سيمر العيد بنفس الشكل، هل سنسمع صوت أم كلثوم تغني quot;ياليلة العيدquot; ولن تقفز قلوبنا فرحة تشاركها العناء؟ هل ستقابلنا أغنية quot; العيد فرحةquot; فنبتسم لها ونمط شفاهنا وكأننا نقول لها لن تخدعينا مرة أخرى؟ما أراه حولي يقلقني، فقليلون من تحمس لشراء ملابس العيد، وبيوت كثيرة للآن لم تحضر الكعك، وكانت معظم البيوت تحضره قبل أسبوع من العيد ليتم الإجهاز عليه فيضطر الوالدان لشراء دفعة ثانية قبل العيد مباشرة، كثيرون خططوا للسفر، وأتصور أنه هروب أكثر منه إحتفال، ليت عيدك يأتي يا مصر وقد جهزت نفسك لإستقباله، ليتك تنفضين عنك غبارك، تلمين شعثك، وتبدلين ثيابك التي تخضبت دما وحسرة، تتعطرين بالفرحة، فلو ضاعت منا فرحة العيد كما تسربت بهجة رمضان، فلن أصاب بأي إندهاش إذا علمت أن عدد المكتئبين في مصر يتجاوز الـ 17٪ حيث أكدت دراسة أجريت على 15 ألف شخص في الإسكندرية والجيزة والفيوم والقليوبية والإسماعيلية أن17% ممن شملتهم الدراسة كعينة تمثل كل المصريين من سن 18 سنة حتي سن 64 سنة تم اختيارهم بطريقة عشوائية، يعانون أمراضا نفسية أهمها الاكتئاب والقلق والاضطرابات الجسدية والنفسية، وذلك نتيجة الضغوط التي يتعرض لها معظم المصريين الآن. ومن أهم المشكلات النفسية التي استعرضتها الدراسة كان مرض الوسواس القهري الذي أصبح يصيب 10% من المصريين، إذ يعانون أفكارا وسواسيه ومظاهر دينية دخلت في إطار الوسوسة.