كنت أعرف أنها معركة، لكنني قررت الإنتصار، لن يضيع هذا الحب أبدا، فهذا الرجل الذي صنع في بلاد العم سام هو التلخيص المفيد لأحلامي. هل حقا أحببته؟ أم كما قال لي أخي أنني مجرد هاربة من قهر عشته؟ أم أن حبي له كان شكلا من أشكال الإعتراض على قيود مجتمعي؟ لم أكن أملك وقتا لأفكر في هذا الأمر. إنتصرت رغم ضراوة الحرب وتزوجت ممن أحببت، لم يكن يعكر صفو سعادتي إلا كلمة قالتها لي شقيقتي: quot; سيأتي يوم وتندمين، فالماء لايذوب في الزيت، والشمس لن تشرق من الغرب إلا كعلامة من علامات الساعةquot; كنت أحاول أن أنسى هذه العبارة وأثبت عكسها، فزوجي يعاملني كإنسانة، يعطيني الحق كي أثور، أغضب، أتمرد. كأي امرأة كان يأكلني الحنين لأهلي بعدما انتقلت للحياة مع من إختاره قلبي، كنت أذهب إليهم بمفردي، فأنت يا من أحببت لا تميل إليهم، هم أيضا يبادلونك نفس المشاعر.
تصورت في البداية أن إعراضك عنهم بسبب رفضهم زواجنا،، لكن مع الوقت أدركت أنك تنظر إليهم كعالم ثالث متخلف، كأنصاف بشر، حقا لا تعاملني على هذا الأساس، ولكن لماذا؟ لأنك بزواجك مني إعتبرتني وقد إقتلعت من أرضي لأصبح زهرة في شرفتك أنت.
ويبدو أنني ساعدتك على هذا التصور، فقد إنبهرت بكم، حاولت أن أكون جزءا منكم، ويبدو أنني في محاولاتي المحمومة نسيت أنكم في بلاد الأمريكان لا تزرعون النخيل بشرفاتكم، وأن النخلة لن تصبح شجرة صنوبر لمجرد أنها أرادت ذلك. لم أعرف أن محاولاتي لتغيير إنتماءاتي وفصيلة دمي، ولون بشرتي، كانت محاولات فاشلة إلا اليوميوم أسود، الليل المدلهم بجانبه عروس في رداء زفافها، اليوم عطلة، وهي فرصة لترتيب بعض الأشياء بالبيت والإستعداد للندوة المهمة التي سألقي فيها كلمة بعد غد، وحيدتي تصر أن اذهب معها لمشاهدة الماراثون السنوي، وأنا أحاول التملص فلا وقت لدي، أنت أيضا لا تستطيع فأمامك الكثير من المهام لإنجازها، إذهبي وحدك يا حبيبتي، quot;ولكنني ياأمي أريدك معيquot;، طيب إتصلي بإبنة عمك ترافقك، تناولنا إفطارنا وجاءت الصغيرة لترافق إبنتي، صمت أطبق علي المنزل بعد خروجهما، فقد صار لنا أكثر من أسبوعين أنا وزوجي في حالة هدوء يسبق العاصفة بعد مشادة كبيرة جرت بيننا، هكذا صرنا للأسف منذ فترة، ومعظم مشاحناتنا كانت من أجل الصغيرة، فكل منا له طريقة في تربية صغيرتنا تختلف عن الآخر، وعندما وصلت لعامها الثاني عشر بدأت الخلافات تظهر بشكل كبير، أصولي الشرقية كانت تطاردني في تربيتها، وجذوره الغربية أبت إلا أن تتحكم.
هو يراني متخلفة وسوف أقودها للبلاهة، وأنا أراه منفتحا أكثر من اللازم وسيضيعها لو طاوعته، ليته يفهمني، أريدها عصرية بشكل ملتزم.
أنهيت أعمال تنظيف سريعة وأعددت الطعام انتظارا لاجتماعنا حول المائدة، وجلست أحاول التحضير لكلمتي التي سألقيها في الندوة، وبينما أنا أدق بأناملي علي لوحة المفاتيح أكتب ما تجود به قريحتي، إذا بي أسمع صوتا مخيفا وهزة كبيرة في المبنى، زلزال؟ يا الله وابنتي؟ الأعداد كثيرة اليوم،لابد أن أذهب فورا إليها، الباب يصفق بشدة، ويأتيني صوت زوجي صارخا، quot; مصيبة، مصيبة، قومي فورا، ابنتنا في خطرquot;. ياربي، ماذا هناك، لم أدر بنفسي، لا أعرف كيف ألقيت بكل ما في يدي ولا كيف هرولت، لم أدر بنفسي إلا وأنا أركض معه، يفهمني ما حدث ولكن بصوت متقطع الأنفاس، إذاً ليس زلزالا، نلهث، انفجار! نعم؟ إنفجار في ساحة كوبلي! أخبط على صدري، وقتها ذابت كل الحروف الإنجليزية، صرخت بأعلى صوتيquot; يا مصيبتيquot; بنتي، ضناياquot; وهو مسترسل في لهثه وكلام صرت لا أسمعه، حروفه الإنجليزية لم أعد أفهمها، وكلمات الألم والهلع العربية لم يسمعها، كل منا صار يولول بلغته في اتجاه بعيد عن استيعاب الآخر، ورغم أننا نسكن علي بعد خطوات من مسرح الكارثة، إلا أنني خلت دهورا انقضت قبل وصولي، لا شيئ هنا إلا الدمار، لا شيئ يؤكد أننا بشر، أهكذا يذهب كل شيئ بهذه البساطة؟مصابون، أبواق سيارات إسعاف وإطفاء، صرخات، عويل، كاميرات،دموع ترقص مذبوحة فوق وجنات لم أميزها، برك الدماء تملأ الأرض، رجل خسر قدميه يحاول الوقوف ولا يستطيع، فيقع مذهولا وهو ينظر إلي أقدامه المقطوعة، يبحث في الشارع المذهول عن قدميه، نركض كمجنونين، كأبلهين لا يعرفان أي جهة يقصدان، هي، أصرخ فيه، هي، يتبعني، يتبعني حيث فتاتنا منكمشة علي نفسها، فاقدة للوعي سابحة في دماء تنزف من ذراع مقطوع، صرخ في وجهي: لكنها كانت ترتدي سروالا أزرق اللون، لم أرد عليه، ماذا أقول؟ لم تبقِ المصيبة إلا علي بقايا سروال وفخذ واحد بعدما ضاعت كل التفاصيل الباقية، يا لحزني يا لمصيبتي، لا أعرف لماذا تباطأنا ونحن نحاول أن نصل إليها، وكأننا كنا لا نريد أن نصل، كنا نحاول ألا نصدق أنها هي، منكفئة علي وجهها، نجلس علي ركبتينا، يأتي أحد رجال الإنقاذ، نكتشف أنها ليست هي، وندرك أن ما خفنا منه كان أهون بكثير، فصدمتنا في أنها ليست ابنتنا جعلتنا نتمنى لو كانت هي، خطوط الهاتف مقطوعة، الكل من حولنا في حالة هيستيرية، الخيام الطبية المعدة لمساعدة العدائين انقلبت إلي غرف طوارئ يحمل إليها الجرحى، رحلة عذاب بين هذه الغرف التي تفوح منها رائحة الموت والألم، أصرخ بأعلى صوتي، ابنتي، دلوني أين ابنتي، تركض أنت كالمجنون بين أشلاء وبقايا أرجل وأيدي تناديها علها تجيبك. ينتهي كل شيء. لا نعود دارنا، مصابنا واحد فوق أحد الأرصفة نتهالك، هي مع ابنة عمها، موجودة ولكن تري كيف ضاعتا؟، لم نسأل وقتها من الجاني، كل ما يعنينا أن نتمسك بأمل ضئيل، سنجدها، أريدها في حضني الذي تشقق انتظارا وانكسارا، تتهالك أنت فوق كتفي، ألقي إليك بمعاناتي، نبكي معا، نصرخ معا، نفقد الأمل معا، أخيرا نصل إلى المستشفي التي وصفوها لنا حيث يرقد المصابون، ونجدها، في حالة حرجة جدا تتلقي العلاج، الأمل ضعيف في شفائها، أخبرتنا إبنة عمها بذلك بعد أن تلقت هي إسعافات لإصاباتها البسيطة، سبحان الله، كانتا معا لكن المصاب إختلف.لن نعود لبيتنا، لن نتركها لحظة، مهما قالوا سنظل هنا، ليلة أشعر ثوانيها خناجر تسافر في دمي إلى هذا الحد يمكن أن يصيبنا الألم بالجنون؟ لا فائدة، الوضع صار أخطر ولا يسمح لنا برؤيتها، ونعود بيتنا يمنعوننا من الدخول، فقد تم إخلاء بعض عقارات المنطقة،لا أريد البيت بدونها، لكنني أم تهفو إلي صورة صغيرتها. نذهب عند أخيك، أرى نظرات تحيطني من كل اتجاه، هناك شك أن يكون الفاعل عربي، ذكريات 11 سبتمبر تعود للأذهان، ولم يجدوا سواي ليجلدونني بنظراتهم، فأنا إبنة الشرق الذي تتجه إليه أسهم الاتهام. لا، يكفيني عذاب فلذتي، يكفيني فراغي المكتئب الذي لا تظلله سماء. كل شيئ من حولي يبني إنهيارا، لا تاريخ إلا الدمار، أذهب للمستشفي علهم يسمحون لي بالزيارة، أتسكع في الطريق، أمر علي شوارع كنا نسير فيها معا، أتذكر ضحكاتها، أقدامها الصغيرة تركت توقيعها هنا، وهذه الأريكة كانت تجمعنا، وأنا في قمة استغراقي فوجئت بثمرة طماطم تقذف في وجهي، افترشت الثمرة تقاطيعي لأواجه مجموعة من الشباب الصغير يوجهون لي عبارات قاتلة، عبارات تتهمني بأننا العرب لا نرضى إلا قتلهم، وأنا أركض منهم ينخلع حذائي، ويتسيل الدماء من قدمي، في نفس الشارع الذي اغتيلت فيه فرحة ابنتي، شريط من دمي يرقد بجوار آثار أقدامها ينام على وسادة الطريق، يلاحقونني بالإتهام كدت أصرخ فيهم، أنا أم إبنتكم التي ضاعت، لا أحد يسمعني، ركضت، أريدك، احمني من حزني يا رجلا أفتقد ساعده، خبئني من ألمي ومن تهديداتهم.
ألهث، أعود إليك متقطعة الأنفاس لأجدك مع أمك وشقيقك في الردهة تتابعون الأخبار، لماذا لم يقلقك مظهري الأشعث؟ لماذا لم تجلدك رجفتي وتقطُع أنفاسي؟ لماذا لم أجد صدى هلعي عندك؟ صرخت فيك أركض لصدركquot;إنقذنيquot;لم تأخذ رأسي أمانة عندك، وقفت أمامي ومشاعر غريبة تعربد فوق ملامحكquot; سنؤدبهم، سآخذ بثأر ابنتيquot;. جاوبتك:quot;وثأري أنا؟ لقد طاردوني، قذفوني بأشيائهم، أسلوب همجي، هل هذه هي عدالتكم؟ افعل شيئاquot; أهزك من كتفيك، أوقظ فيك حبيبا طالما لجأت إليه، راعني ردك الذي رقص ببرود علي شفتيكquot; أعذريهمquot; أعذرهم؟ أعذر من؟ آتي إليك كعصفور ملتاع فتطلب مني أن أحتسي دمائي في كأس غفران؟
ماذا قلنا وقتها؟ لا أدري، كل ما أدريه أننا تجاوزنا كل الحدود، أخرج كل منا رأيه في حضارة الآخر، أخرجت ما لم أكن أتصور أنه موجود بداخلي، سمعت منك ما لم أتوقعه
تتهمنا بالتخلف، بالضياع، بالهمجية، وأؤكد لك أنكم بتعاليكم هذا إنما تظهرون فقركم الحضاري، كيف سمحنا لأنفسنا أن نكون بهذه القسوة، كيف هان حبنا؟
قلت: quot;إن كنت تبكي لابنتك، فما ذنب أطفال ذهبوا علي أيديكم قرابين على مذبحة انتقام؟.
بصلف تجيبني:quot; أنه رد الفعل سيدتي، فمن العار أن تذهب دماء أطفالنا في صمت دون جريرة ارتكبوهاquot; صرخت فيك:quot; لا يهمكم إلا أنفسكم، وتعاقبوننا بلاذنب نرتكبه، وتفلتون من ذنوبكم في حقناquot; هزتني بعنف فزلزلت كياني: quot;إرهابية مثلهمquot; كدت أصرخ فيك، قطع محاولتي خبر شؤم قفز إلي الشاشة. مازالت التحقيقات تتم ولكن شبهات تحوم حول جهة إسلامية إرهابية. صرخت بكل قوتي. حرام. حرام ما يحدث. جنون ما أحياه نظرة إحتقار رأيتها بعينيك، لم أحتمل، لم يعد عندي ما أدافع به، فلا زالت أحداث برجي التجارة وصمة تعاقبوننا بها
ما ذنب البشر يا ربي؟ ما ذنب الأمهات؟ الأرض تسعنا جميعا فلماذا لا نحتمل العيش معا؟
أضع يدي علي مقبض الباب، يبدو أن خط نهاية الماراثون، كان خطا لنهايتنا. أشعر كيانك خلفي، يدك ترتاح في تصميم علي راحة يدي، مشاعر عجيبة تنام وتصحو في عينيك، رجاء؟ حب؟ خوف؟ ألم؟ لا أدري، صوتك الهادئ يحتضن ارتجافي: quot; أرجوك، كوني معيquot; تحتضن رأسي بين راحتيك، ونبكي معا.