بعد عشر سنوات من سقوط النظام السابق، مرت تجربة الحكم في العراق بمراحل عديدة حيث كانت متعثرة في أغلب تلك المراحل. بعد كل تلك السنين، لابد من تقييم تلك التجربة لنعرف أين وصلنا، ولماذا كانت تلك التجربة قاسية على الشعب العراقي، وماهي آفاق المستقبل. أن ماسوف أكتبه في هذا المقال مجرد رأي ووجهة نظر شخصية أقسمها إلى ثلاث مستويات، المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
فعلى الصعيد السياسي، لانستطيع أن نقول أن تجربة الحكم في العراق كانت تجربة ناجحة، ولا حتى أنها على طريق النجاح، فدعوة السيد المالكي الأخيرة لحكومة أغلبية هي منعطف يعكس الفشل في عملية التوافق التي بنيت عليها العملية السياسية برمتها، ولكنها تبقى بداية والبدايات دائما تكون محفوفة بالمخاطر، ولكن، لماذا هذا التخبط؟ أن أول أسباب هذا التخبط هو سياسة الولايات المتحدة الذرائعية، وهذه السياسة تعتمد على ردة الفعل في الفعل السياسي كنتاج للواقعية السياسية وهو نهج متبع في السياسة الخارجة للولايات المتحدة. ونتيجة لذلك، لم يكن لدى الولايات المتحدة أدنى فكرة عن كيف سيكون الحكم في العراق، ومن الذي سيحكم، وماهي الإجراءات المتبعة لترسيخ حكم ديمقراطي. فكان لتنصيب الحاكم بريمر وقراراته بحل الجيش العراقي السابق وتدمير كل مؤسسات الدولة العراقية السابقة الأثر البالغ الذي ندفع ثمنه الآن.
من جهة أخرى، حيث يقف السياسيون العراقيون، أن المشكلة الحقيقية لكل الأطراف السياسية في العراق هي غياب المشروع الحقيقي لبناء الدولة، حتى أنهم لايمتلكون مشروعا ً أصلا ً، بل مجرد أفكار وتجارب مستوحات من روايات موجودة في بطون الكتب، أو مشاهدات شخصية بحكم وجودهم خارج البلاد في دول مختلفة. أن قيمة المشروع السياسي تكمن بأن هناك آيدلوجية معينة قائمة على فلسفة واضحة في بناء الدولة، لاتنطلق تلك الفلسفة من الواقع فحسب بل تعتمد بشكل معياري على الرؤية المستقبلية لما يجب أن يكون عليه شكل الدولة ومؤسساتها وكيف يمكن للمجتمع التواصل مع تلك المؤسسات. فالأحزاب الإسلامية، بكل أطيافها، مازالت تراوح وتتداول أفكار خمسينيات القرن المنصرم، إذ تريد تطبيقها ولا تعلم بأن التيارات الإسلامية في مصر وباكستان وأيران تعيش أزمة حكم حقيقية وهي تحاول إعادة النظر بكل الفكر السياسي الإسلامي من جديد. فتجد أن هناك تصورا ً مشوها ً لمفهوم الديمقراطية والحرية والمساواة وماتعني المواطنة ومن هو الآخر وماهي الهويات الفرعية وكيف يمكن الحفاظ عليها، إذ تجد أن هناك خلط عجيب غريب بين الدين والسياسة ولاتوجد حدود فاصلة بينهما ليعرف المتدين والسياسي حدودهما فيتحركان ضمن الأطر المرسومة في الدستور. ونتيجة لذلك أتجهت تلك التيارات الإسلامية للمشاريع الطائفية لتحشيد القاعدة الجماهيرية. أضف إلى ذلك غياب التيار الليبرالي ونشوء بعض الاحزاب الهجينة التي تخلط بين فكرة القومية والنظام الديمقراطي، فهي إلى الآن لاتستطيع احتواء الآخر المختلف في العرق والنطقة.
أن هذا التخبط السياسي في غياب مشروع الدولة ومعنى المواطنة لدى كل التيارات السياسية في العراق أثر على عملية بناء المؤسسات على فلسفة واضحة وجعل الخطابات السياسية متعددة وكثيرا ً ماتكون متناقضة تجاه الداخل والخارج. من هنا، أن أي تعدد في الخطابات السياسية يفتح منفذا ً للتدخلات الخارجية ويفسح المجال لنفوذ مشاريع أقليمية لها أهدافها الخاصة. لقد جعل هذا التخبط السياسي العراق بين فكي المحور الأيراني من جهة والمحور السعودي القطري التركي من جهة أخرى.، أما الأمريكان فهم يراقبون ويتدخلون في الوقت الذي يتناقض الوضع مع مصالحهم. أضف إلى ذلك أن هذا التخبط السياسي أثر على عملية إعادة البناء والإعمار وأغرقه في دوامة الفساد، فمن جهة هناك غياب للعمل المؤسساتي في معالجة الكثير من الأمور كمحاربة الفساد وملف الخدمات وتطوير الديمقراطية، ولهذ السبب، وكتعويض لغياب العمل المؤسساتي تلجأ الدولة للطرق التقليدية في معالجة الأمر، كمحاربة الإرهاب من خلال الأمن فقط دون وضع دراسات أكاديمية عن مصدر الإرهاب وكيفية معالجته ودون أي جهد إستخباراتي. أو بدل دعم المؤسسات الديمقراطية تلجأ الحكومة إلى العشائر في عملية الحفاظ على التماسك الاجتماعي وهذا ضد مبادئ الديمقراطية.
كانت هذ جملة من الأسباب التي أدت إلى تقهقر العملية السياسية، أما على الصعيد الإقتصادي، فان التحول إلى الاقتصاد الحر على يد الحاكم بريمر وبالإتفاق مع النخبة السياسية العراقية جعل العراق من أكثر الدول الإستهلاكية في المنطقة وذلك بعد تدفق أموال النفط الهائلة وميزانية تاريخية تحلم بها دول مجاورة. أن الإنتقال من فلسفة الإقتصاد الموجه من قبل الدولة المركزية إلى فلسفة الإقتصاد الحر جعل عملية بناء المؤسسات الحكومية في غاية الصعوبة، إذ لاتوجد أرضية مناسبة لإقتصاد السوق في العراق كالليبرالية الديمقراطية والإقتصادية ونظام مصرفي خال من البيرقراطية أو قوانين واضحة للإستثمار. فالضعيف الذي كانت تحميه مؤسسات الدولة أصبح في مهب الريح حيث مستوى خط الفقر في العراق بأعلى مستوياته، أما من هو المستفيد من هذا النظام فهم مجموعة من التجار والمقاولين والمضاربين يمولون الاحزاب السياسية ويدعمونها في هذا التوجه الاقتصادي. أن الاعتماد على اقتصاد السوق جعل من المواطن العراقي إستهلاكي من الطراز الأول أما اولئك المنتفعون فهم المستفيدون من خلال الإستيراد حيث يعيقون أي عملية تغيير في هذا النظام الإقتصادي لإرتباطهم بسياسيين في الحكومة والبرلمان، ومثلا ً على ذلك احتكار بضع شركات لمنظومة الإتصالات المتخلفة أو مستوردي الغاز من دول الجوار الذين يعيقون أي جهد يدعو إلى إستغلال الغاز الطبيعي المهدور الذي يحترق بعد خروجه من حقول النفط العراقية. أن هذه السياسة الإقتصادية كانت من الأسباب التي أدت إلى تخلف التجربة السياسية العراقية حيث همشت الموارد البشرية والناتج الوطني وجعلته يعتمد على الميزانية التشغيلية التي تغطي مرتبات البطالة المقنعة التي تتزايد يوم بعد يوم، والتي أعاقت نشوء منظمات مجتمع مدني مستقلة عن الدولة والتي يمكن أن تشكل نواة للمجتمع المدني.
أما على الصعيد الاجتماعي فلم يشهد العراق من قبل تشتت وتشظي للهوية الوطنية بعد سقوط النظام السابق. فقد تعرض النسيج الاجتماعي العراقي إلى التمزق على أساس طائفي ولم تبذل الدولة أي جهد يعيد الإندماج بين الطوائف والقوميات والإثنيات المختلفة. لقد تطور شعور الإنتماء الطائفي المتمثل بالضمير...هم ونحن... بشكل مضطرد على حساب الهوية الوطنية بسبب السياسات الطائفية التي إنتهجتها بعض الأطراف السياسية وبسبب المشاريع الأقليمية التي تريد أن تدخل العراق في دوامة العنف لأسباب دينية واقتصادية وسياسية. أن غياب الطبقة الوسطى التي حطمها النظام السابق، والتي تتكفل بالتغير في كل بلد، بسبب فلسفة اقتصاد السوق وبسبب اعتمادها التام على الدولة كطاقة تشغيلية أعاق أي عملية تطور وتحول نحو الديمقراطية.
أن تلك الأسباب المذكورة والتي هي بنيوية في جوهرها لاتلغي وجود أسباب أخرى عطلت تطور التجربة السياسية في العراق، كالأسباب الثقافية المتمثلة بالنظام العشائري الأبوي التقليدي الذي سمح للدكتاتورية بمسك زمام الأمور، إضافة لثقافة الريف التي طغت على المدينة والتي تكفلت بإعاقة أي تطور ديمقراطي حقيقي بتفضيلها القوانين والاعراف العشائرية على ثقافة إحترام القانون وإحتقار المرأة المساهم الرأيسي في عملية البناء وتهميش الشباب على حساب كبار السن أصحاب الحكمة في إدارة الأمور. نعم، أن كل تلك الأسباب تتكامل وتتفاعل لتجعل من التجربة السياسية في العراق من أعقد الأمور وتسد أي أفق مستقبلي في التغيير مادام هناك مغامرون لاينظرون لتجارب الآخرين ويستفيدون من أخطائهم. فلا نتصور أي تقدم يذكر مالم تتظافر جهود السياسيين والمثقفين والأكاديمين في وضع فلسفة واضحة لمشروع دولة تفصل الدين فيه عن السياسة وليس عن المجتمع، وعلى هذا الأساس تتبنى الدولة فلسفة اقتصادية واحدة كفلسفة الاقتصاد المختلط، لكن الأهم، على الدولة بجميع مؤسساتها، وبمساعدة الاكاديميين والمثقفين القيام بعملية التحول الثقافي من النمط التقليدي إلى النمط الحداثوي، فلايمكن بأي حال من الأحوال تصور نظام ديمقراطي تعددي من دون التحول نحو الثقافة الحداثوية، والتي تشكل القاعدة الأساس لأي نظام يقوم على مبدأ الديمقراطية والمجتمع المدني.
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات