لا ينبغي فهم الهجوم على الكاتدرائية المرقسية للأقباط الأرثوذكس، المعروفة بكونها المقر الدائم لبابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، بمعزل عن أحداث المقطم، التي وقعت أمام المقر الرئيسي لجماعة الإخوان المسلمين قبل ثلاثة أسابيع، والتي اشتبكت فيها ميليشيات الإخوان مع مجموعات خرجت للتظاهر تنديداً بحكم الإخوان الذي يقود مصر إلى السقوط في هاوية الإفلاس الاقتصادي والتشرذم السياسي والانكسار الاجتماعي والتفتت الطائفي. لم يكن خروج عدد من كبار قيادات الجماعة للإعلان، عبر وسائل الإعلام الإخوانية، أن الغالبية العظمى ممن تظاهروا أمام مقر الإخوان كانت من المسيحيين سرداً لحقائق أو قراءة لمشاهد، ولكنه كان تحريضاً جلياً ضد الأقباط وترخيصاً بالهجوم عليهم وعلى رموزهم بهدف ترويعهم ومنعهم من الإعراب عن أرائهم بشأن فشل الإخوان الذريع في حكم مصر.

ما يعزز هذه الفرضية أن الهجوم على الكاتدرائية المرقسية التي تعتبر الرمز الأكبر للكنيسة القبطية غير مسبوق على الإطلاق في التاريخ الحديث. ففي أيام أنور السادات السوداء التي شهدت بلوغ جماعات الإسلام السياسي المتطرفة قمة عنفوانها لم تتم أية محاولة للهجوم على الكاتدرائية. ورغم أن عمليات إرهابية عديدة وقعت على بعد مئات الأمتار فقط من الكاتدرائية خلال الحقبة الساداتية، مثل اعتداءات الزاوية الحمراء، إلا أن الكاتدرائية بقيت بمنأى عن هجمات المتطرفين. كما لم يتم الاعتداء على الكاتدرائية في عقدي الثمانينيات والتسعينيات اللذين عرفا بعقدي الجهاد المسلح ضد الدولة المصرية والأقباط. وحتى حين فقد حسني مبارك قدرته على مواجهة التيارات السلفية وحين قامت جماعات منها بشن حرب ضد الكنيسة والبابا شنوده، البطريرك الراحل، بسبب سعيها لأسلمة فتيات وسيدات قبطيات مثل وفاء قسطنطين وكاميليا شحاتة، لم تسع للاعتداء على الكاتدرائية.

كان إذاً هناك دافع أخر مختلف وراء الهجوم على الكاتدرائية، دافع يختلف عن دوافع الجهاديين والسلفيين. الدافع الذي نستخلصه من المعطيات المتوافرة هو الهجوم على أكبر رمز قبطي رداً على اشتراك أقباط في التظاهرات التي جرت أمام مقر الإخوان بالمقطم. لم تكن المسألة هنا تطهير مصر من الأقباط كما كان الجهاديون يحاولون، ولم يتعلق الأمر بالسعي لأسلمة فتاة أو سيدة كما كان السلفيون يسعون. القضية هنا ترتبط بمحاولة إيقاف مشاركة الأقباط السياسية في صفوف المعارضة. القضية تتعلق بالنشاطات والتصريحات القبطية الرسمية وغير الرسمية التي عبرت عن حالة الإحباط التي تسيطر على جموع الأقباط بسبب الأسلوب السيء الذي ينتهجه نظام جماعة الإخوان الحاكم.

أمر أخر يعزز هذه الفرضية وهو الدور القبيح الذي لعبته الشرطة في الهجوم. كان مفجعاً أن تقوم قوات الأمن ليس فقط بمساعدة المتطرفين المهاجمين عبر تسهيلات ليس أكثرها خطورة السماح لهم باعتلاء مدرعات الأمن في مخالفة لكل الأعراف الشرطية، ولكن أيضاً بالاشتراك في الاعتداء على الكاتدرائية والأقباط المحتجزين داخلها في مشهد يذكرنا بالاعتداء سيء السمعة وباهظ الثمن الذي شنه الجيش على الأقباط أمام ماسبيرو في نوفمبر 2011 والذي راح ضحيته نحو ثلاثين شهيداً قبطياً. ورغم أنه لا يمكن استبعاد وجود ميول إخوانية أو متطرفة لدى رجال الشرطة الذين شاركوا في الاعتداء، إلا أنه ومن المؤكد في الوقت ذاته أن مشاركة الشرطة في الاعتداء لم تكن لتتم لو لم يكن الاعتداء مجاملة للجماعة الحاكمة، إذ من غير المتوقع أن تتخذ الشرطة موقفاً منحازاً بهذه الصورة في عملية اعتداء لو لم تكن هناك تعليمات لها من جهات سيادية.

الاعتداء على الكاتدرائية إذن كان محاولة لردع الأقباط ومعاقبتهم والانتقام منهم لدورهم الوطني في معارضة الإسلوب الذي تُحكم به مصر اليوم. لكن ما تغفله جماعة الإخوان المسلمين أن الانتقام من الرموز الروحية للأقباط سقوط أخلاقي وسياسي لن يغفره التاريخ. هناك فروق كبيرة بين المعارضة السياسية التي يمارسها أقباط للإعراب عن وجهات نظرهم تجاة أسلوب حكم الإخوان والاعتداءات الإرهابية لقمع الأقباط والتي يجيء على رأسها الاعتداء على الكاتدرائية المرقسية.

الفارق الأول هو أن مقر الجماعة هو موقع جماعة سياسية وتدار داخله كافة شئون مصر ويحق للمصريين جميعاً التظاهر أمامه للإعراب عن خيبة أملهم من حالة الانهيار التي بلغتها مصر على أيدي الإخوان المسلمين، بينما الكاتدرائية هي موقع عبادة روحي يقدسه الملايين من المسيحيين المصريين ويجب على الجميع مهما كانت عقيدته احترامه.

الفارق الثاني هو أن ما حدث أمام مقر الإخوان بالمقطم كان تظاهرات قامت بها منظمات وأحزاب ومجموعات سياسية، شملت مسلمين ومسيحيين، لأسباب وأهداف سياسية بحتة. أما الهجوم على الكاتدرائية فقد كان بدوافع سياسية ممزوجة بدوافع لدينية متطرفة وبهدف ترهيب الأقباط وتخويفهم وإجبارهم على القبول بأوضاعهم المتردية في وطنهم.

الفارق الثالث هو أن المظاهرات أمام مقر الإخوان كانت مظاهرات رأي لم تستهدف الإضرار أو الإصابة أو القتل، وإن كانت ميليشيات الإخوان قد أفسدتها وأحالتها إلى معركة حربية عندما اشتبكت مع المتظاهرين. أما الهجوم على الكاتدرائية فقد كان مسلحاً واستهدف الإيقاع بخسائر بين أبرياء منهم الأطفال والنساء والشيوخ الذين ذهبوا لتشييع جثامين شهدائهم الذين قضوا في عملية إرهابية قام بها متطرفون إسلاميون ضد كنيسة في مدينة الخصوص.

فروق كثيرة بين ممارسة الحق السياسي بطريق مشروع والجرائم غير المشروعة، هي فروق يدركها فقط أصحاب الضمير الحي اليقظ. لكن الجماعة التي تعمي طموحاتها السلطوية بصيرتها وتقتل ضمرها لا يمكن لها أن تعي أو أن تفهم مثل هذه الفروق.

وكما كان متوقعاً فقد أنهى النظام الإخواني الحاكم قضية الاعتداء على الكاتدرائية بسلسلة تصريحات باهتة وبيانات متناقضة غابت عنها الحقائق وضاعت معها حقوق الأقباط الأحياء منهم والشهداء. وإذا كان الإخوان قد زعموا أنهم سيقدمون المسئولين عن الجريمة للعدالة، فالحقيقة هي أن من أعطى الضوء الأخضر للمتطرفين بالهجوم على الكاتدرائية، فضلاً عن رجال الأمن الذين شاهدوا الهجوم وشاركوا فيه هم من يجب أن يتم تقديمهم للعدالة. غير أنه من المستحيل أن يقدم الإخوان المسلمون من شجع على الهجوم أو من خطط له أو من شارك فيه للعدالة. وستهدر العدالة مرة أخرى مع الجماعة. ولكن إذا كان الإخوان قد أنهوا القضية من دون تحقيق العدالة، فهناك ثقة كاملة وإيمان من دون حدود بأن الإخوان أنفسهم بما فعلوه وما لم يفعلوه قد دقوا مسماراً جديداً في نعش نظام حكمهم قصير العمر.


[email protected]