سيسجل التاريخ يوم 7 ابريل 2013 كأسوأ ما سطره المصريون في تاريخهم، فلم يحدث أبدا منذ أيام الاضطهاد الروماني لأقباط مصر أن تم الاعتداء على الكاتدرائية المرقسية بمصر لما لها من مكانة واحترام في قلوب المسلمين قبل المسيحيين. فوجئت مصر بهذا الحدث الجلل في أعقاب أحداث شغب حدثت بمدينة الخصوص في شمال مصر، تبرع كثيرون بأن ما يحدث إنما هو فتنة طائفية تتصاعد في ظل فوضى مستشرية ومد تشددي تعانيه البلاد، فهل هذه هي الحقيقة؟ إذا حاولنا أن نمسك بخيوط الأزمة ونتتبعها قد نرى الأمر مختلفا تماما، البداية الواضحة علي السطح بدأت يوم الجمعة 5 إبريل عندما قامت مشاحنة بين اثنين مسلمين واثنين أقباط في مدينة الخصوص، ليتطور الأمر إلى عراك يسفر عن مقتل صبي مسلم في الثامنة عشرة على يد شاب مسيحي أطلق النار عشوائيا على المتجمعين، فكانت هذه هي الشرارة لأحداث دامية أسفرت عن مقتل أربعة أقباط وإصابة العديد من المسلمين والمسيحيين، ليتطور الأمر إلى إحراق محال تجارية للأقباط وسيارات وبيوت أيضا، ويقرر الأقباط إقامة الجنازة يوم الأحد فيتوجهون إلى الكاتدرائية تسبقهم أحزانهم، ويصاحبهم الكثير من المسلمين يؤازرونهم في مصابهم، ويفاجأ الجميع عند خروجهم من الكاتدرائية بمن يضربهم بالحجارة! فيكون رد الفعل الطبيعي تبادل الضرب بالحجارة بين من ذهبوا لتشييع الجنازة وأطراف مجهولة بادرتهم بالهجوم، ليحتمي المشيعين بالكاتدرائية فيتبعهم وابل من القنابل المسيلة للدموع والتي تتسبب في اختناق الكثيرين، وتتوالي ضربات الخرطوش والرصاص من أفراد مجهولين خارج الكاتدرائية فيسقط أول شهيد مدافعا عن الصرح القبطي، أول شهيد هو محمد شاهين، مسلم فاضت روحه دفاعا عن إخوته الأقباط، هي إذاً ليست فتنة طائفية، بل عمل إجرامي أريد به إحراق مصر في آتون الفتنة.

إذا عدنا إلى أصل المشكلة فقد نتمكن من التقاط خيط الحقيقة، فشهود العيان بعضهم يؤكد أن المشكلة نشبت بسبب قيام طفلين برسم الصليب المعقوف علي جدار معهد ديني إسلامي في مدينة الخصوص، وعندما نهرهم رجل كان يمر من أمام المعهد شرعوا في إزالة الرسم إلا أن شابا مسيحيا اعترضهم، فتشابك مع شاب مسلم وبدأت الأحداث تتصاعد، شهود آخرون قالوا أن المشكلة قديمة، فمنذ شهرين قام أحد شباب المسلمين بالتعرض لإحدى الفتيات المسيحيات أثناء مرورها مما آثار حفيظة أحد أقربائها ونشب عراك استطاع كبار البلدة احتواءه، لكن يبدو أنه شحن النفوس، وسواء كانت هذه الرواية أو تلك إلا أن الرسم الجداري هو الذي فجر الأحداث مجددا، ليجعلنا نسأل أنفسنا، في هذه المدينة العشوائية البسيطة كيف لأطفال صغار أن يعرفوا معنى الصليب المعقوف؟ ومن حرضهم علي هذا الفعل لإثارة الفتنة؟ وأين هؤلاء الأطفال؟ إذا لم يتعرف عليهم أحد من أهل المدينة فلابد أنهم غرباء فكيف وصلوا إلي هذه المنطقة في هذا الوقت الذي تجاوز السادسة مساء؟ ثم لماذا اختاروا هذا المكان بالذات والذي يواجه بيت الجاني وهو من يعاني مشكلة مع أحد المسلمين منذ شهرين؟ النقطة الثانية، من أين أتى الجاني بالسلاح الذي صار يضرب به عشوائيا حتى أردى القتيل الأول والذي كان مقتله سببا أساسيا في اندلاع الكارثة؟

يجعلنا هذا نعود إلى ما قاله د.كمال الجنزوري عندما صرح بأن عدد الأسلحة التي دخلت مصر بعد الثورة بطريق غير شرعي وصلت إلى 10 مليون قطعة وباتت في أيدي الكثيرين بدون ترخيص. ثم تبادل إطلاق النار بين الفريقين يجعلنا ندرك حجم المصيبة، فبالفعل صار السلاح متاحا للجميع، شيء آخر أيضا أجمع عليه كل الشهود، وهو أن المشكلة تفاقمت عندما صرخ منادي من المسجد يحرض المسلمين علي أن يهبوا لنصرة إخوانهم! ويتضح أن المنادي هذا ليس المسئول عن المسجد بل أحد القاطنين بالمدينة! شيئ ثالث لا يقل أهمية بل لعله الأكثر وهو أن الأحداث صارت دموية بحضور أفراد غرباء عن المدينة، ملثمين ويرتدون الجلابيب البيضاء ولم يعرفهم أحد من المواطنين! لكن هناك ما هو أهم، فقد لاحظت شيئا مهما، هذه البلدة تقع في منطقة يطلق عليها الأمن في مصر منطقة المثلث الذهبي، والمثلث الذهبي لمن لا يعرف هو عبارة عن ثلاث قرى في القليوبية بمصر، تمرست هذه القرى في تجارة المخدرات، قبل الثورة، ليستوطنها الكثيرون بعد الثورة من المجرمين العتاة الذين هربوا من السجون أثناء اقتحامها، ويحولون المنطقة بالإضافة للمخدرات إلى تجارة السيارات المسروقة والسلاح، المنطقة أيضا معروفة بحوادث خطف الأطفال، ومنها الطفل الذي تم خطفه في فترة سابقة من أمام كنيسة الأنبا بولا بشبرا الخيمة- لاحظوا المفارقة المهمة- والذي استطاعت الشرطة أن تعيده لأهله وتقبض على الجناة، لذلك شكلت منطقة المثلث الذهبي هاجسا كبيرا وتحديا عظيما أمام الشرطة المصرية، وفي الصباح الباكر من يوم 5 إبريل تمت مداهمة أخطر البؤر الإجرامية في هذه المنطقة وتم تبادل إطلاق النار وقبض على 9 عناصر إجرامية شديدة الخطورة وكمية كبيرة من الأسلحة، وهذا ما يعتبر نصرا كبيرا للداخلية في سبيل تحقيق الأمن، فهل يمكن أن نعتبر ما حدث في الخصوص هو محاولة انتقامية تم توجيهها للشرطة بإشعال أحداث شغب لتفسد علي الشرطة انتصارها؟ هذا تفسير. التفسير الثاني وهو يسير في خط آخر، ما تعرض له فضيلة شيخ الأزهر من تلميحات كادت تصل إلى تصريحات بعزله عن منصبه إثر حادث التسمم الذي أصاب طلبة جامعة الأزهر، وكانت هناك وقتها محاولات لتحميله المسئولية بهدف عزله عقابا له على رفضه منح الشرعية لمشروع الصكوك الذي تحاول الدولة تمريره بأية وسيلة، وهو الحدث الذي لم تمض عليه أيام قليلة قبل أحداث الخصوص، وقتها تجمع المسلمون والمسيحيون لمساندة شيخ الأزهر ووقفوا صفا واحدا لمناهضة محاولات النيل منه،، فهل جاءت أحداث الخصوص كانتقام سريع من الأقباط؟
أما التفسير الثالث فهو ما تم أثناء انعقاد اجتماع مكتب الإرشاد يوم 20 فبراير، حيث وصلت تسريبات عما أسفر عنه الاجتماع الذي حضره توماس فرناند، إذا صدقت هذه التسريبات، فما حدث في الخصوص يعتبر جزء منها. وأيا كانت الأسباب وأيا كانت التفسيرات فما حدث إنما يدل علي شيوع الفوضى وعدم احترام القانون، وكيف لمواطن بسيط أن يحترم القانون وهو يرى بعينيه ويتابع محاصرة المحكمة الدستورية، والقفز فوق القانون في إقالة النائب العام السابق، وعدم امتثال المسئولين لتنفيذ أحكام القضاء بخروج النائب الحالي وترك مقعد النيابة العامة، حتى بعد أن صدر قرار المجلس الأعلى القضاء وهو الجهة المعنية، عدم احترام واضح للأحكام القضائية، ليطل علينا بيان الرئاسة حول الوضع المحتقن بمدينة الخصوص فيقول: quot;تابعت رئاسة الجمهورية الأحداث المؤسفة التي شهدتها مدينة الخصوص وما أسفرت عنه،من وقوع ضحايا ومصابينquot;.
ولعمري إذا كانت أعلى جهة مسئولة تتابع وتشهد فماذا يفعل المواطن البسيط الذي لا يملك سلطة؟ ثم يستطرد البيان ليصل إلى جملة استوقفتنيquot;تناشد الرئاسة جميع المواطنين احترام القانونquot; وكيف يمكن احترام القانون إذا كانت أحكامه لا يتم تنفيذها على مستوى القمة؟

مشكلة الخصوص ستصبح دوامة من الزيت المغلي يغرق فيه الوطن إذا لم يتم تداركها، والذي يزعجني أكثر أن العالم الغربي الذي كان ينتفض لأي شوكة تصيب قبطي في مصر بات صامتا، هل هو الصمت الذي يغري بالمزيد حتى تتفاقم الأحداث فنصل إلى وضع كارثي تتعالي معه الدعاوى والنداءات للتدخل الدولي؟ هل هي بداية التقسيم؟ أتمني لا.. لكن ليس كل ما يتمني المرء يدركه.