عبر أزمان سحيقة، ومن خلال مختلف الثقافات والحضارات، سعى البشر للجمع بين خوفهم من الفضاءات اللانهائية بتنظيمهم وجمعهم لشظايا من المعلومات البدائية المتفرقة عن العالم الخارجي في خريطة واحدة متجانسة ومفهومة scheacute;ma unifieacute; et coheacute;rent، وهكذا تعاقبت أشكال الأكوان واتخذ شكل الكوسموس Cosmos أو الوجود مظاهر مختلفة عير الزمان والتاريخ. فقبل بضعة عشرات من آلاف السنوات عاش الإنسان في كون سحري مليء بالأرواح، مثل روح الشمس إبان النهار، وروح القمر وأرواح النجوم إبان الليل، وروح الحجر الذي يعثر فيه في طريقه فيطلب منه العفو والمغفرة، وروح النهر الذي يجري وتنحدر مياهه من منبع مجهول إلى مصب غير معلوم، باختصار، كون مألوف ومريح وبسيط على مستوى بساطة الإنسان البدائي ومحدودية إدراكه العقلي. ولكن مع تراكم المعارف والخبرات اختفت البراءة الأولى. واستطاع الانسان أن يدرك بالتدريج مدى تعقيد الظواهر الطبيعية المحيطة به ومحاولة فهم معانيها، إلى جانب عجزه عن مواجهة شساعة هذا الكون وسعته اللامتناهية التي اكتشفها مؤخراً. فقبل حوالي العشرة آلاف سنة تحول الكون السحري univers magique البشري إلى كون خرافي ما فوق بشري univers mythique surhumain تهيمن عليه وتقوده الآلهة حيث انسحبت الأرواح من أشجار الغابات والأزهار والأنهار وبات كل شيء، وكل الظواهر الطبيعية، بما فيها خلق الكون نفسه، كناية أو تعبير عن، ونتيجة، لأعمال الآلهة وقصص عشقهم وزيجاتهم وأحقادهم وحروبهم. ومع ترسخ هذا الكون الخرافي في أذهان البشر ظهر الدين وأشاع خرافة الاتصال مع الآلهة الذي لا يمكن أن يحدث على نحو مباشر بين البشر والآلهة عكس ما كان عليه الحال في الكون السحري البشري البسيط عندما كان الاتصال المباشر مع الأرواح ممكناً. وبناءاً عليه ظهرت طبقة الكهنة والعرافين ورجال الدين باعتبارهم الوسطاء المختارين والمحظوظين أو ذوي الحظوة لدى الآلهة لأنهم يمثلونهم على الأرض واختيارهم يتم من قبل الآلهة باعتبارهم صلة الوصل الوحيدة مع البشر.
دامت هذه الصلة بين صيغة الكون البدائي والدين ما يزيد على الثلاثة آلاف سنة إلى أن جاء الكون العلمي ليزيح الكون الخرافي عن عرشه. ففي القرن السادس قبل الميلاد ظهرت المعجزة الإغريقية في قلب الكون الخرافي بفضل حفنة من الرجال المتميزين الذين اتسموا بالحس والحدس الثوري الذي يتجاوز معايير زمانهم بكثير، وكانوا هم الذين تخيلوا إمكانية تشريح هذا العالم وتقطيعه ألى أجزائه ومكوناته الأولية واكتشفوا بحدسهم الثوري أن هذا العالم يقاد بقوانين يمكن للعقل البشري اكتشافها والتعاطي معها والتعامل بموجبها مع كافة الأحداث والظواهر، ولم يعد بديهياً ووارداً مراقبة ومشاهدة ورصد الظواهر الطبيعية باعتبارها خوارق للطبيعة من فعل الآلهة أو القوى الخفية وتقبلها كما هي من غير فهمها، ولا الانصياع أو الاستسلام بصورة عمياء للآلهة التي كان العامة يعتقدون أنها تقف وراءها. إن بدايات ذلك الكون العلمي هي التي تطورت لتقودنا ألى كوننا العلمي المرئي والقابل للرصد الذي نعيش فيها وندرسه اليوم.
اعتقد الإغريق أن الأرض هي مركز العالم ولقد ساد هذا الكون المركزي geacute;ocentrique على امتداد أكثر من عشرين قرناً لغاية سنة 1543 عندما أزاح كوبرنيكوس Copernic الأرض من موقعها المركزي في الكون وبدء معها الحط من مكانة البشر في المكان والزمان الكوني الجديد. أصبح الكون ميكانيكياً meacute;canique وحتمياً deacute;terministe مع إدخال قانون الثقالة أو الجاذبية لحلبة التفكير على يد نيوتن Newton سنة 1687. في نهاية القرن السابع عشر الميلادي تولدت لدى البشر رؤية لكون لا نهائي univers infini لم تكون الأرض مركزا له ولا للإنسان الذي يقطنها مركزاً وأهمية تذكر. وهو لا نهائي لأنه إذا كان له حدود فمن الحتمي أن يكون له مركز كما اعتقد نيوتن آنذاك وبالتالي فإن الثقالة أو الجاذبية الكونية سوف تدفع كل شيء للانهيار نحو المركز وهو الأمر الذي لم يكن يتوافق مع نتائج الرصد والمشاهدة القائمة آنذاك. تمسك إنسان القرن السابع عشر الضئيل بالنسبة للكون بصلته الخرافية مع السماء، أليس هو سليل آدم وحواء؟ بالرغم لخسارته لمكانته المركزية في الكون إلا أنه يظل الكائن المدلل عند الله الخالق لهذا الكون الهائل، هكذا كان الإنسان يمني النفس كنوع من المواساة والتعويض.ثم جاءت الضربة القاصمة على يد العالم البريطاني تشارلز دارون CHARLES DARWIN الذي حرم الإنسان من آخر عزاء أو مواساة عندما تشر بحثه الثوري الموسوم أصل الأنواع ORIGINE DES ESPECES سنة 1859، والذي أظهر فيه أن الإنسان ليس بهذا النبل والنقاء والتميز الذي اعتقده عن نفسه بل كان اسلافه في قديم الزمان حيوانات بدائية تطورت من كائنات بدائية أحادية الخلية مروراً بأطوار ومراحل عبر ملايين السنين كالأسماك والزواحف والثدييات وصولاً إلى الحيوانات المتطورة نوعياً كالقرود الشمبانزي بمختلف أنواعها. ومن ثم أعيد النظر بعمر الكون الذي قدره نيوتن تماشياً مع النصوص الدينية المقدسة بستة آلاف سنة 6000 لأن التطور البيولوجي الذي اعتمده دارون يتطلب مليارات السنين كي يحدث وهو المدى الزمني الذي أكدته وأثبتته الدراسات والأبحاث والتنقيبات الجيولوجية. وهكذا كبر الكون ليس في الفضاء فقط بل وفي الزمان أيضاً. واستمرت الاكتشافات في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في تقليص مكانة الإنسان شيئاً فشيئاً. وآظهر مسح جغرافية مجرة درب التبانةLA VOIE LACTEE أن لها شكل قرص يبلغ نصف قطره 90000 سنة ضوئية حسب تقديرات ذلك الوقت، وإن الشمس ليست سوى نجم من بين مئات المليارات من النجوم المماثلة والمختلفة، واتضح أن حجم نظامنا الشمسي لا يتعدى جزء من واحد من مليار من حجم مجرتنا وللتقريب يمكننا التشبيه بحجم أميبيا بالنسبة للمحيط. تشبث البشر بمفهوم المركزية واستعاضوا بالشمس بدل الأرض واعتبروها مركزاً لمجرة درب التبانة حيث كانت مجرتنا هي الكون كله المعروف من قبل البشر حينذاك. أظهر العالم باتاتراس PATATRAS بوضوح لا يقبل اللبس أن الشمس نجم عادي جداً يقع على أطراف المجرة وفي أحد أذرعتها الكائنة في ضواحي المجرة على بعد يزيد قليلاً على نصف قطر المجرة. وفي سنة 1923 أثبت إدوين هابل EDWIN HUBBLE وجود مجرات أخرى في ما وراء مجرة درب التبانة. وهكذا بدأ الكون العلمي يكبر رويداً رويداً إلى درجة أن مجرتنا درب التبانة ضاعت كقطرة ماء في محيط وسط كم هائل من المجرات التي تعد بمئات الآلاف من المليارات كما ضاع قبلها نظامنا الشمسي داخل المجرة، وتم التأكد بما لا يقبل الشك أن درب التبانة مجرد مجرة عادية لا تتميز بشيء خارق تسبح داخل نسيج مهول من المجرات التي تملأ الكون المرئي Lrsquo;UNIVERS OBSERVABLE
بات بمقدور المراقب أو التلسكوبات القوية والكبيرة المتطورة جداً، سواء الموجودة على الأرض أو في الفضاء، أن تقتنص ضوء المجرات البعيدة جداً والتي تقع على مسافة تزيد على 12 مليار سنة ضوئية لأن الضوء بسرعته المحدودة المعروفة لدينا يحتاج إلى وقت طويل للوصول إلينا، وكلما رصدنا بعيداً كلما توغلنا في الأوقات المبكرة للكون المرئي.فضوء القمر يحتاج لثانية أو أكثر بقليل لكي يصل إلى الأرض ويحتاج ضوء الشمس إلى ثمان دقائق أرضية لكي يصل إلى الأرض ويحتاج ضوء أقرب نجم إلينا إلى أربع سنوات ضوئية لكي يصل إلينا. أما ضوء أقرب مجرة لمجرتنا درب التبانة وهي مجرة المرأة المتسلسلة أو أندروميدا ANDROMEDE فإنه يحتاج إلى أكثر من مليون سنة ضوئية لكي يصل إلينا. أي أن الضوء الذي نراه الآن من أندروميد كان قد انطلق منها في رحلته الطويلة التي استغرقها ليصل إلينا عندما بدأ أول إنسان يمشي على قدميه على أرض البسيطة في مكان ما من أفريقيا الحالية. أما اقرب حشد من المجرات AMAS فإن ضوئه يحتاج إلى 50 مليون سنة لكي يصل إلى درب التبانة. وبفضل عمليات الرصد والمراقبة والمشاهدة المستمرة والتحليل للطيف الضوئي تمكن العلماء من رسم وإعادة بناء وتشكيل تاريخ أصلنا ووجودنا. إنها قصة مذهلة وساحرة حقاً. واليوم يعتقد البشر أن الكون المرئي بدأ بانفجار كبير يعرف بالبغ بانغ BIG BANG أدى إلى ظهور الزمان والمكان أو الفضاء قبل حوالي 14 مليار سنة ومن تلك النقطة الأولية بدأ التسامي من التبسيط إلى التعقيد، و ابتداءاً من فراغ ميكروسكوبي خلق الكون الحساء الأساسي للجسيمات الأولية ومنها النوى الذرية للعناصر الأخف والأكثر بساطة في الطبيعة أي الهيدروجين والهليوم اللذين ظهرا في الدقيقة الثالثة بعد الانفجار الكبير على حد اعتقاد الكثير من علماء الفيزياء الكلاسيكيين. ولكن بسبب توسع وتمدد وترقيق ونمو الكون المرئي لم تستطع العناصر الثقيلة الضرورية للحياة والوعي أن تتشكل في الكون البدئي أو البدائي. ولكي ينقذ الكون نفسه من العقم اختلق النجوم ومن خلالها، وبفضل العمليات الخيميائية ALCHIMISTE المتعلقة بتحول المعادن والتفاعلات الكيميائية الذرية تكونت العناصر الكيمائية المعقدة والمركبة ومنها تلك الضرورية للحياة والوعي داخل درب التبانة قبل 4.55 مليار سنة عندما انهارت غيمة مابين نجمية interstellaire هائلة على نفسها تحت تأثير ثقالتها أو جاذبيتها لتؤدي إلى ولادة نجمنا الشمس وما حولها من كواكب وأقمار حيث استيقظت الحياة الكامنة في الكوب الثالث بعد الشمس من هذه المنظومة الشمسية المسمى كوكب الأرض قبل 3.8 مليار سنة. وكان أول كائن بشري قد مشى على الأرض قبل 3.5 مليار سنة وابتكر هذا الكائن البشري البدائي أول أداة قبل 2.5 مليار سنة. وانبثق التفكير التأملي والرمزي قبل حوالي 200000 سنة مع ظهور الإنسان الحديث HOMO SAPIENS وصار هذا الإنسان يندهش أمام جمال وهارمونية الكون ويطرح على نفسه أسئلة وجودية عن هذا الكون ومن أوجده. وقبل 30000 سنة ظهرت رسومات على جدران كهف أو مغارة شوفيه GROTTE DE CHAUVET وظهرت أولى الحضارات البشرية بكل ما لهذه الكلمة من معنى قبل أكثر من 5000 سنة في حضارة وادي الرافدين وبعدها في وادي النيل مصر الحالية وكذلك في أمريكا اللاتينية مع الأنكا والمايا. ولو اختزلنا عمر الكون المرئي المقدر بـــ 13.8 مليار سنة حسب آخر التقديرات والحسابات العلمية في نهاية آذار 2013 وضغطناه في سنة واحد فقط لكان تطور النوع البشري قد حدث فقط في الساعتين الأخيرتين من هذه السنة وبقفزات تطورية هائلة. فحيث بدأ أول إنسان يمشي على سطح الأرض في الساعة 21.49 من مساء يوم 31 ديسمبر حسب نتائج عمليات المحاكاة الحاسوبية الكومبيوترية على الكمبيوتر العملاق، ومن ثم بدأ صنع الأدوات من الحجر في الساعة 23.59 و 26 ثانية واخترع الزراعة في 23.59 و 37 ثانية، وبدأ علم الفلك في الساعة 23.59 و 50 ثانية وظهر الحديد في الساعة 23.59 و 58 ثانية وبدأ عهد النهضة والعلم التجريبي في آخر ثانية أي في الساعة 23.59 و 59 ثانية.
انقسم العلماء بعد ترسخ النظريات العلمية الكوزمولوجية إلى فريقين بشأن ظهور الحياة والوعي، فريق اعتقد أن ذلك حدث بمحض الصدفة وإنها مجرد حدث عابر في تاريخ وسيرورة الكون الطويلة وبأن الكون لا يبالي ولا يأبه بوجودنا مما أصابهم بالإحباط وكان التعبير الأكثر دلالة على ذلك هو صرخة بليز باسكال blaise pascal في القرن السابع عشر التي قال فيها :quot; إن الصمت الأبدي للفضاءآت اللانهائية يرعبنيquot;. وجاء الرد بعد ثلاثة قرون يحمل الرؤية المتشائمة ذاتها على لسان عالم البيولوجيا الفرنسي الشهير جاك مونود jacques monode صاحب الكتاب الشهير الصدفة والضرورة، عندما قال:quot; الإنسان ضائع في الشساعة اللامبالية للكون الذي ظهر فيه صدفةquot; وعلى لسان عالم الفيزياء الأمريكي ستيفن وينبيرغ steven weinberg الذي قال:quot; كلما فهمنا الكون أكثر كلما بدا لنا مجرداً من المعنىquot;. والفريق الثاني كانت له رؤية مناقضة للرؤية اليائسة السابقة وهي بالتالي رؤية متفائلة تقول بأن للكون معنى وهدف ويسير نحو غاية محددة وإن ظهور الإنسان في الكون لم يكن وليد الصدفة بل عملية خلق مبرمجة وإن هناك صلة جوهرية بين الإنسان والكون. فلأننا مكونون من غبار النجوم ومن العناصر الثقيلة الناتجة عن الخيمياء الذرية للنجوم فإننا نتقاسم نفس الأصل الكوني الموجود في النباتات والحيوانات والجمادات والأغبرة والغازات والنجوم وتوابعها المكونة للكون المرئي أي أننا جزء جوهري من الكون المرئي ذاته وهو كون هوليستيكي holistique غير الحتمي والمفعم بالخلق المستمر والدائم والمتجدد. فنيوتن كان يعتقد أن الكون ليس سوى آلة جبارة مكونة من جسيمات مادية جامدة خاضعة لقوى عمياء. وانطلاقاً من عدد صغير من القوانين الفيزيائية يمكن شرح تاريخ نظام بأكمله والتنبوء بإمكانية توصيفيه في أية لحظة من حياته. ولقد عبر العالم الفرنسي لابلاس laplace عن هذه العقيدة الحتمية بالقول:quot; بالنسبة لعقل أو ذكاء مفكر يستوعب في صيغة واحدة حركات أكبر الأجرام في الكون وأصغرها وأخفها أي الذرات،لا شيء يكون غير مؤكد بالنسبة له وإن المستقبل كالماضي والحاضر سيكونون حاضرين أمام ناظريه في آن واحدquot;. فالكون القديم كان سجيناً ومجرداً من أية إبداعية وممنوع من التجدد. والحال إنه يكفي تفتيت النظام المركب إلى عناصره الأولية الأكثر بساطة ودراسة سلوكيات أجزائه ومكوناته لنفهم شموليته. فالكل ليس سوى مجموع الأجزاء المكونة له. والجدير بالذكر أن هذه الرؤية الاختزالية العقيمة دامت لغاية نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مع ظهور النسبية العامة والميكانيك الكمومي.
اعتقد معظم علماء الفيزياء في نهاية القرن التاسع عشر، أن القوانين الكلاسيكية توفر لهم معرفة تامة لعالم الطبيعة، وبالرغم من ذلك ظلت هناك بعض التساؤلات العلمية تبحث عن أجوبة. ففي سنة 1900 ولدت الفيزياء الكوانتية أو الكمومية physique quantique لتلبية هذه الحاجة ومحاولة الإجابة على تلك التساؤلات. وكان لابد من مراجعة حصيلة المعارف المتراكمة في مجال الفيزياء خلال القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر عشية حلول القرن العشرين من أجل فهم أصول نشأة الفيزياء الكمومية أو الكوانتية. كانت الفيزياء موزعة على ثلاث اختصاصات وهي الميكانيك والكهرومغناطيسية والثرموديناميك أو الديناميكا الحرارية. وكان الميكانيك الكلاسيكي يستند على دعامتين وضعهما اسحق نيوتن في نهاية القرن السابع عشر وهما: الأولى مكونة من ثلاثة قوانين عرفت بقوانين الحركة lois du mouvement، الدعامة الثانية هي نظرية الثقالة أو الجاذبية الكونية la gravitation universelle والتي تعد بلا شك أحد أهم الاكتشافات العلمية في كل الازمان التي سبقت القرن العشرين. وكان الجمع والتوفيق بين هذين الاكتشافين الهامين قد قاد البشرية إلى تحقيق تقدم وانجازات نظرية وتقنية مهمة. فمازالت قوانين نيوتن هي التي تسمح لنا بحساب مسارات الصواريخ والأقمار الصناعية التي نرسلها إلى الفضاء. أما الكهرومغناطيسية الناجمة عن توحيد القوة الكهربائية بالقوة المغناطيسية فقد عرفت قوانينها منذ العام 1864 على يد جيمس ماكسويل james maxwell من خلال أربع معادلات باتت اليوم شهيرة، والتي ماتزال تستخدم لوصف الانظمة المتغيرة كالموجات الراديوية والتلفون والمحركات الكهربائية. الفرع الثالث من الفيزياء الكلاسيكية هو الديناميكا الحرارية أو الثرموديناميك thermodynamique الذي يدار بثلاث مباديء أساسية وهي : دراسة آليات انتقال الحرارة بين الأجسام وهو المجال الذي تطور إبان القرن التاسع عشر على يد علماء فطاحل من أمثال كارنو وجول وكلاوسيوس carnot،joul،clausius وكانت تطبيقات الثرموديناميك عديدة فقد اتاحت اختراع المحرك الانفجاري وأنظمة التبريد وكذلك كانت الأساس لدراسة العديد من الأنظمة الفيزيائية والجيوفيزيائية، ولا ننسى أن نظيف إلى كل ذلك مجال البصريات lrsquo;optique الذي تعاملت معه معادلات ماكسويل وهو اقرب للكهرومغناطيسية بالرغم من تميزه وبفضله صنعت العدسات والتلسكوبات والمرايا و عرفت مختلف الإشعاعات الضوئية المرئية وغير المرئية فهو إما جيوميتريكي هندسي geacute;omeacute;trique أو موجي ondulatoire وكانت دراسة طبيعة الضوء هي التي قادت إلى تطوير الفيزياء الكوانتية أو الكمومية. وكانت حصيلة ذلك التيقن من أن الضوء ينتشر بسرعة محددة معلومة وثابتة ومحسوبة هي سرعة الضوء 3000000 كلم في الثانية. إلى جانب ذلك ثبت أن الضوء في سيره، إذا لم يصطدم بعائق، فإنه سينتشر ويسير بصورة مستقيمة وثابتة. ثم جاءت المعادلات الرياضياتية لتثبت لنا ظاهرة باتت بديهية اليوم عن الطبيعة الموجية للضوء إلى جانب طبيعته الجزيئية فهو إذاً يخضع لتفاوت الموجات أي عدد من التأرجحات والارتفاعات والانخفاضات في الثانية الواحدة مما يحدد لون الاشعاع الضوئي من خلال طيفه، فاللون الأزرق له طول موجي يقدر بأربعمائة نانومتر تقريباً، وفهم ظواهر الانحراف والتفاعل، الزيغ او الانكسار والحيود الضوئي، الذي يحدث عندما تلتقي موجتان ضوئيتان أو أكثر في نقطة ما في الفضاء أو المكان.
كانت معضلة الجسم الأسود الساخن إلى أعلى درجة حرارة له هي التي طرحت مسألة العلاقة بين لون الجسم المحمي أو المسخن ودرجة حرارته. الأمر الذي تكفل بحله العالم الفيزيائي الفذ ماكس بلانك max planck وهو الأب الحقيقي لما عرف فيما بعد بفيزياء الكم أو الكوانتا التي تطورت مع الوقت،اصبحت غاية في التعقيد والصعوبة. لذلك يعاني الجميع من صعوبة فهم و إدراك معاني الفيزياء الكوانتية أو الكمومية. ولا يوجد من يستطيع الادعاء بأنه مستوعب بشكل كامل لمعادلات الفيزياء الكوانتية أو الكمومية، خصوصاً حين نستعين بالقول الشهير لريتشارد فاينمان quot;لا يمكنك فهم الميكانيك الكمومي وما عليك سوى أن تتقبله كما هوquot;. فالفيزياء الكوانتية أو الكمومية تتمتع بغرابة وصعوبة لا تتوافق مع المعطيات المألوفة في الفيزياء الكلاسيكية.
إلى ذلك يجدر القول أن الفيزياء الكوانتية أو الكمومية و الميكانيك الكوانتي أو الكمومي، بدءآ فعلياً مع نموذج بور لذرة الهيدروجين Lrsquo;atome de Bohr، عندما فسر بور عملية انتقال الالكترونات بفكرة quot;سويات الطاقةquot;، و منذ ذلك الحين، بدأت المعادلات تظهر للعالم، و التي أشهرها معادلة هايزنبرغ في اللايقين Lrsquo;eacute;quation drsquo;incertitude drsquo;Heisenberg، و التي تنص على أنه يستحيل تحديد و تعيين موضع و سرعة جسيم ما بنفس الوقت و بدقة عالية، وهو المبدأ الأساسي في غرابة الميكانيكي الكمومي، إذ نستنتج من هذه المعادلة أن العالم الذري و ما دون الذري محكوم بالاحتمالات و الصدف! و لو تابعنا تطور الميكانيك الكمومي أو الكوانتي، سنجده قائم على المعادلات الرياضياتية، و التي يتم استنتاج التفسير الفيزيائي منها، بمعنى آخر، نحن نعتمد على قوة الرياضيات، و صحة معادلاتها، في تفسيرنا للكون و العالم الذي نعيش فيه، و بالنسبة للفيزياء الكمومية، و الميكانيك الكمومي، فإن معظم العلماء يعتبرون أن الرياضيات مستحيل أن تخطأ، و بالتالي مهما كانت حلول المعادلة غريبة، أو غير منطقية، فهي صحيحة!
و أحد الأمثلة الشهيرة على الموضوع هو معادلة بول ديراك Lrsquo;eacute;quation de Paul Dirac، و التي كانت أساساً لتوصيف سلوك الجسيمات الذرية، و فيما بعد، لاحظ ديراك أن للمعادلة حل آخر، يعطي تفاصيل لجسيمات بنفس الخواص، و نفس السلوك، و لكن بإشارة معاكسة، و هو ما تم تفسيره فيما بعض بالمادة المضادة! و بهذه الحالة، فإن معادلة ديراك قد أعطت توصيفاً لجسيم موجود، تنبأت به الرياضيات قبل اكتشافه تجريبياً، و بالتالي، فإن فهم الميكانيك الكمومي أو الكوانتي، و الفيزياء الكمومية أو الكوانتية، يعتمد بصورة كبيرة، على فهم الرياضيات، و القدرة على حل معادلاتها، ومن جهة ثانية هناك المشكلة المتعلقة بالفيزياء الكمومية، وهي أنها فرع علمي، يستخدم لتوصيف سلوك و خواص الجسيمات الذرية، و ما دونها، أي العالم الميكروسكوبي، حيث بينت المعادلات، و التجارب المتلاحقة، أن سلوك الجسيمات الذرية لا يسلك أبداً السلوك الذي تسلكه الأجسام الكبيرة بالعالم المرئي أو العالم الماكروسكوبي، و هنا تكمن المشكلة، فعندما نريد فهم تجربة تصادم مثلاً، نستطيع فوراً توقع نتيجة الصدم، تبعاً لسرعة الجسيمين، و كتلة كل منهما، و بالتالي تحديد نوع الصدم الناجم، و جهة الارتداد لكلا الجسيمين، و لكن بحالة الميكانيك الكوانتي أو الكمومي، فإن مسائل الصدم، لا تنطبق عليها نفس القوانين، بسبب صغر طاقة الجسيمات، و بسبب سرعاتها الكبيرة جداً التي تقرب من سرعة الضوء، و بالتالي، لا نستطيع أن نسقط تفسيرنا المرئي في عالم ذري عليها، و هذا الأمر ينطبق على جميع المسائل الأخرى، فمن أجل فهم الميكانيك الكمومي أو الكوانتي بشكل أوضح و أفضل، علينا أن نتخلى عن قناعاتنا و مشاهداتنا اليومية في العالم المرئي، و نستعد لتقبل عالم آخر، بخصائص أخرى، و قوانين أخرى.
حتى اليوم، لا يزال العديد من العلماء يستخدم مصطلحات quot;الغريبquot;، quot;السحريquot;، quot;الغامضquot;، عندما يحاولون وصف الفيزياء الكمومية و الميكانيك الكمومي، و على الرغم من مرور أكثر من 100 عام على بداية هذا الجانب الرائع من الفيزياء، و على الرغم من تقدم المعادلات و النظريات و التجارب بشكل كبير، إلا أننا إلى اليوم، لازلنا نجاهد لفهم مفارقة قطة شرودينغر Le paradoxe du Chat de Schrouml;dingerو غيرها من القصص الساحرة، في عالم الميكانيك الكمومي. يتبع