عندما تحطمت اسطورة الامة العربية الواحدة على صخرة الخلافات العربية تبين بأن مكارم الاخلاق ليست حكرا على العرب فحسب وانما هي متوزعة على الشعوب والافراد في جميع انحاء العالم بغض النظر عن الدين والقومية واللون، وبعد ان عودنا الرؤساء في الدول العربية والاسلامية على وضع خط فاصل طويل بينهم وبين الشعوب وجدت نفسي في الاكوادور داخل القصر الجمهوري وسط العاصمة كيتو. كان ذلك في نهار مشمس جميل، كنا نتجول في العاصمة بصحبة صديق اكوادوري فرأيت قصرا يتوزع في جوانبه حراس شرف من الذين يرتدون القبعات الطويلة والملابس المزركشة، فسألت فقيل لي هؤلاء حرس شرف وهذا المبنى هو القصر الجمهوري ويستطيع كل انسان ان يدخل الى القصر ويتجول بين ارجاءه بعد اثبات هويته. ثم وجدت نفسي لا ارادياً اقف مع مجموعة من الاجانب ينتظرون الدخول الى القصر حيث جاءت فتاة شابة من التشريفات واستلمت جوازات السفر وبطاقات الهوية للمجموعة وبعدها يمر كل زائر من خلال جهاز الكاشف ويزود ببطاقة تعلق على صدره، وقبل ان تقوم المرافقة باصطحاب المجموعة الى ارجاء القصر تطلب من كل واحد منا الوقوف على السلم لالتقاط صورة تذكارية وتطلب بكل ادب عدم استخدام الفلاش عند التقاط الصور بالكاميرات الخاصة كي لا تتعرض محتويات القصر ولوحاتها الفنية الى التلف. وكان الرئيس موجوداً عند الزيارة ولم يكن يفصل بيننا وبين مكتبه الذي كان يحرسه اثنان من حرس الشرف بملابس مهيبة سوى عشر خطوات و وجود الحارسين ينبيء بوجود الرئيس في مكتبه، وقد طلبت منا السيدة المرافقة تحية العلم الاكوادوري بانحناءة بسيطة. واصطحبتنا بعد ذلك الى القاعات الفسيحة التي تحوي المقتنيات الرئاسية الثمينة ولا سيما قاعة الهدايا التي اعطيت للرئيس الحالي الذي رفض ان ياخذ الهدايا التي تلقاها من الدول الاخرى الى بيته، واكتفى بوضعها للعرض في قصر الرئاسة على عكس سلفه الذي اخذ كل الهدايا الى منزله، والظريف ان الرئيس لم يُسكن اولاده في الطابق الثالث من القصر والمخصص للسكن لانه لا يريد لاولاده ان يتعودوا الرفاهية لفترة ثم يغادرون القصر عاجلا ام آجلا فيستوحشون الحياة العادية بعد مغادرة القصر وهذا يذكرني بالكتابة المعلقة على قصر السيف العامر في الكويت وهي ( لو دامت لغيرك لما اتصلت بك ) وكان كل وزير ومسئول يقرأها عند الدخول الى القصر.
والظريف بان الشعب الاكوادوري يكن للرئيس الاسبق الوي الفارو الذي قتلته الكنيسة سنة 1912 كجزء من صراع الكنيسة والدولة، ويضعون صوره ومقتنياته الخاصة في قاعة الاجتماعات الرسمية، ويحترمونه على عكس حكامنا الذين عودوا الشعب على قتل وسحل الخلف للسلف، وعند انتهاء الزيارة التي استغرقت 40 دقيقة ودعتنا السيدة المرافقة بكل احترام واخذت منا بطاقات الزيارة واعادت الينا الجوازات والهويات ثم سلمتنا ظرفاً فيه صورة تذكارية لنا وقالت هذه هدية الرئيس لكم.
والامر الاهم بان هناك ساحة كبيرة تواجه القصر يفصل بينهما شارع عام، اي ان السيارات تسير بمحاذاة القصر بلا تفتيش ولا حواجز، والاكثر من هذا بان هناك بعض الدكاكين هي جزء من مبنى القصر لبيع الهدايا والملابس الشعبية بالاضافة الى دكان حلاق ( اي والله العظيم ) دكان حلاق في الجزء المحاذي للشارع. والساحة المقابلة للقصر تكثر فيها محلات الملابس والمرطبات وصباغي الاحذية.
وياتي المتظاهرون الى هذه الساحة فيرفعون اللافتات ويطلقون الشعارات، فتنزل سيدة من قصر الرئاسة (كما رأيت بعيني ) الى هؤلاء لتستمع اليهم وتسجل بعض الملاحظات عن مطالبهم وتتبادل معهم ارقام الهواتف ليتم الاتصال بهم لاحقا لحل مشاكلهم، كما قيل لي بان الرئيس تعوّد ان يطل على المتظاهرين من خلال الشرفة القريبة ليوجه كلمة او خطبة على المجتمعين والمتظاهرين وقد حدث في يوم تواجدنا ان اطل الرئيس من الشرفة والقى كلمة في المتظاهرين الذين تفرقوا بعدها بكل هدوء.
والظريف بأني قرأت خبراً بعد ايام من زيارة القصرالجمهوري عن رئيس الاورغواي ( خوسيه موخيكا ) مفاده بان فخامته امر بفتح قصره اي قصر الرئاسة للمشردين وتخصيص 90% من راتبه للاعمال الخيرية ليجسد قيم التضامن مع الشعب.
وهذا ليس من باب المبالغة السياسية فقد سبق له ان احتضن في قصره امرأة وابناءها المشردين حتى اوجدت لهم الدوائر المختصة مأوى مناسبا. وتطلق عليه الصحافة لقب أفقر رئيس في العالم ورئيس الفقراء بسبب تواضعه المطلق، ثم يوجه الخبر سؤالا سخيفا جدا ومكرراً وهو ( هل يمكن للحكام العرب المسلمين من المحيط الى الخليج ان يقلدوا الرئيس موخيكا بفتح قصورهم للفقراء ويتبرعوا بجزء من رواتبهم للمحتاجين، يسألون السؤال وهم يعرفون بان الجواب هو :لا بل مليون لا.
فسلام على الرئيس موخيكا وعلى رئيس الاكوادور وعلى كل رئيس يخاف الله في شعبه.
التعليقات