عشرة أعوام عجاف دموية سوداء مرت منذ أن تكفلت الولايات المتحدة عسكريا و معنويا بمهمة إسقاط النظام الشمولي الإستبدادي السابق في العراق و الذي هو نفسه ماجاء للسلطة في عام 1979 إلا عبر مخطط دولي مشبوه كانت لحمته وسداه تكسيح العراق و توريطه في اتون مغامرات عسكرية وسياسية و امنية كبرى حققت نتائجها لأعداء العراق و الأمة العربية نتائج إنتصار تاريخية لم يحلموا أبدا بإمكانية تحقيقها على أرض الواقع بهذه السرعة الخيالية التي حولت العراق و العالم العربي لساحة خراب واسعة النطاق ولساحة قتل و مطاردة لجميع حثالات التاريخ و السياسة، في التاسع من نيسان / أبريل عام 2003 لم تسقط بغداد كأول عاصمة عربية بعد بيروت طبعا عام 1982 تحت جنازير الدبابات الأمريكية التي إستباحتها بعد موجات هائلة من القصف الستراتيجي و التهشيم التدريجي إستمر طيلة 12 عاما منذ حرب عاصفة الصحراء و تحرير الكويت في 17 يناير/ كانون ثاني عام 1991، فالنظام العراقي السابق كان متهاويا مكسورا منخورا بالهزيمة المرة، وترك الدود ينخر في جثته لعقد و نيف من السنين بعد أن منع العراقيون من تحمل ( شرف ) إسقاطه بأيديهم وبقدراتهم الذاتية و تم إفشال أكثر من محاولة إنقلاب عسكرية كان يمكن لها أن تطيح بالطاغية الذي كان و تؤسس لعراق جديد يمشي على مهل و بتؤدة و تدريجيا نحو حالة طبيعية من الإستقرار في ظل وجود المؤسستين الأمنية و العسكرية وبعيدا عن بشاعات التقسيمات الطائفية العفنة أو العرقية المريضة.
نعم لقد أفشلت الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة أهم محاولة إنقلابية عام 1994 التي لو نجحت لجنبت العراق و المنطقة وحتى العالم خسائر و تداعيات لم يكن لها أي داع أو مبرر، و لكنه المخطط الأمريكي/ الصهيوني القديم و الذي تسلل إلينا للأسف على شكل وعود وعهود مخملية منافقة إندفعنا جميعا للأسف نحو تصديق مضامينها اللفظية و نحن في غمرة الشوق لعالم وواقع جديد و مختلف يبدو أنه من صنع أحلامنا الجميلة التي تحولت لكوابيس فقط، لقد كان يوم سقوط بغداد المنصور سقوطا كاملا لكل نظريات الدجل و الخديعة، وبداية حقيقية لتنفيذ أبشع مخطط تقسيمي و تدميري إعتمد في آلياته و مراحله على حماقات وجرائم النظام الفاشي الصدامي السابق الذي تم النفخ فيه دوليا حتى طغى و تجبر و تجاوز حدود أوهام القوة ليتصور نفسه بأنه عصي على الإقتلاع و الفناء بعد أن إنعزل عن الجماهير وسقط في الفخ المنصوب و تحول لبيدق رخيص و ساذج في لعبة الأمم، في عام 1980 إنطلق نظام صدام حسين بشعاراته القومية و بإعلان عمله القومي الذي أعلنه في الثامن من شباط/ فبراير من ذلك العام في حملة علاقات و تسويق قومية عامة هي الأعنف و الأشد تركيزا و شحنا إعلاميا منذ نظام الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر كانت المادة ألأولى من ذلك الإعلان تدعو لتحريم اللجوء للعمل العسكري في حل الخلافات بين الدول العربية!!!
وكانت تلك الديباجة بمثابة المقدمة لإشعال نيران الحرب مع إيران و التي بحماقة وسذاجة نظامها الثوري الجديد وفي ضوء الصراع على السلطة هناك كانت قد وفرت الأسس و الأسباب لإندلاع تلكم الحرب ( الفخ ) التي كانت حربا خاطئة في زمن خاطيء ضد عدو خاطيء، كان صدام حسين يسعى لغسل عار إتفاق الجزائر عام 1975 و الذي تنازل فيه العراق ولأول مرة في تاريخه الحديث عن سيادته على ( شط العرب ) متذرعا بحكاية الدعم الإيراني للأحزاب الطائفية المتخلفة كحزب الدعوة أو منظمة العمل الشيرازية أو مجاميع العملاء الآخرين الذين لايقلون فاشية وإجراما عن نظام صدام حسين الدموي، لقد وجه صدام ضربته الأولى نحو حزبه شخصيا الذي ( طهره ) من كل القيادات التي توسم منها شرا على مخططاته الخاصة،وصفى العناصر البعثية التي كانت تحمل روحا إستقلالية ونزعة وطنية، فكانت حملات الإعدام ضد الرفاق و التي شملت حتى المعتقلين إنفراديا منذ سنوات مثل القيادي البعثي الراحل عبد الخالق السامرائي!، وكانت مجزرة شنيعة حفرت أخاديد عميقة في الجرح العراقي النازف و أسست لديكتاتورية فردية وإستبداد أسود كان مدعوما وقتذاك من الشرق و الغرب و حتى من غالبية دول المنطقة، حتى أن الصحفي المصري الشهير و أحد منظري الإستبداد القومي المعاصر محمد حسنين هيكل وصف صدام حسين بقوله إنه ( قيادة شابة من نوع جديد )!!
وعلى العكس من جمال عبد الناصر الذي تحالف الغرب على إسقاطه و إضعافه برز صدام حسين مدججا بالسلاح و الخبرات و التغطية الإعلامية و السياسية من الشرق و الغرب بوقت واحد، فالسلاح ( السوفياتي ) كان يجري بين يديه كالماء السلسبيل، وطائرات حلف الناتو الفرنسية ( سوبر إيتندارد و صواريخ إكزوسيت ) طوع بنانه! وأقمار أميركا الصناعية كانت تزوده بالصور الإستخبارية بكل ممنونية!! بل أن الطيران الحربي العراقي ضرب الفرقاطة الأمريكية ( المارشال ستارك ) في عمق الخليج العربي قاتلا أكثر من 37 من عناصر المارينز عام 1987 ولم تحرك أمريكا ساكنا أو تحتج وتهدد بالرد، بل تقبلت و بفرح وسرور إعتذار طارق عزيز الدبلوماسي عبر قولته الشهيرة لقد كان الأمر مجرد خطأ!!
It was just mistake!!
لقد كانت واحدة من أكبر عمليات النصب و الإحتيال الدولية و التي بلغت الذروة مع لجوء صدام لإستعمال السلاح الكيمياوي في حلبجة في ربيع 1988 ضد الفقراء الأكراد في مدينة حلبجة، فاغلق الغرب الصهيوني المنافق عيونه عن الحقائق، وصمت صمت الحملان ولم يقم بإدانة النظام العراقي أبدا ولو بكلمات بسيطة و مرت الجريمة وكأن شيئا لم يكن وبراءة الأطفال في عيون سادة البيت الأبيض و جنرالات البنتاغون الذين كانوا يضعون اللمسات الأخيرة على مرحلة النظام الدولي الجديد الذي سيطبق بعد شهور من ذلك الحادث الإجرامي البشع!!
إنها لعبة الأمم التي لا تعرف الرحمة أبدا، أما العالم العربي بأنظمته المهترئة فقد كان نائما في العسل يشيد ببطولات الرفيق صدام الكارتونية فيما ينافق الإعلام العربي لتجميل القبائح وصنع الطغاة و إغماض العيون وصم الآذان، حتى بلغت الفاشية في العراق قمة غرورها وصدقت حكاية عضلاتها المنفوخة بالوهم، وتصورت إن بأمكانها تغيير الخرائط ورسم الشرق الأوسط الجديد فحصل ماحصل من غزو للكويت ومن الأحداث التي تبعته والتي ظلت تستنزف المنطقة حتى اليوم، لقد كانت مرحلة عبثية إختلطت فيها الرؤى، وساد التهريج، و أنعدمت فيها الضمائر، وتسيدت الفوضى الموقف، لقد تم تحرير الكويت عام 1991 وإزالة آثار العدوان الهمجي الذي لم يستمر سوى سبعة شهور طاحنة وبأثمان باهظة دون أن يتم التخلص الفوري من النظام الذي مارس الفوضى وأسدى خدمات لاتقدر للصهيونية العالمية التي تعملقت بعد مؤتمر مدريد عام 1991 ثم أضحت واقعا ملموسا بعد إتفاق أوسلو الشهير عام 1993 والذي حول القضية الفلسطينية لدكان بقالة!!
وأنهى رسميا وفعليا حالة الصراع لصالح الصهاينة، فيما كان صدام المهزوم لا زال يصرخ حول أمهات المعارك و الحواسم و الإنتصارات الهوائية!، لقد كان المسرح الدولي بصدد الإعداد الميداني لمذبحة عراقية جديدة تحت يافطة الدفاع عن الحريات وبناء الديمقراطية في الشرق الاوسط، فتم إنتشال المعارضة العراقية وخصوصا الطائفية من خيبتها الثقيلة وهي التي تخلت عنها إيران ذاتها بعد شرب حكامها لكأس سم الهزيمة عام 1988، وقام الغرب المنافق بتجميع تلكم الأحزاب المفلسة من جديد بعناصرها المتساقطة و المنهكة، وتم الصرف على مؤتمرات و أدوات نشطت إعلاميا وهي تحمل شعارات الديمقراطية الذهبية التي لا يعرفها أبدا أهل تلكم الأحزاب الشمولية فكرا و سلوكا و المتخلفة آيديولوجيا وثقافيا، وهي نفسها الأحزاب التي قادت الإرهاب الدولي في الشرق الأوسط في ثمانينيات القرن الماضي بنفس قياداتها المترهلة و التي نبذها حتى الإيرانيون!!
لقد رفض الأمريكان رفضا مطلقا إتاحة المجال للتيارات الحرة وللعناصر الليبرالية و الخبيرة ان تكون في قيادة المشروع التغييري تحقيقا لهدف ( الفوضى الخلاقة ) التي لم تنتج سوى الدماء و الدموع و الالام، وهنا تداخل المشروع الصفوي مع المشروع الصهيوني لينتج حالة هلامية وغريبة تكررت عبر التاريخ وحيث تلاقحت إرادة الأشرار لتنال من وحدة وسيادة وحرية العراق، فالولايات المتحدة أرادت للعراق أن يكون منطقة قتل وجذب لخصومها المتشددين الذين هم في البداية صناعة امريكية منذ أيام افغانستان، فبدلا من أن يكون القتال في شوارع نيويورك او لوس أنجلس أو تكساس، كانت الحرب في شوارع بغداد و الموصل والفلوجة والبصرة، وكانت الفرصة التاريخية للنظام الإيراني الذي حاول طويلا وبدون جدوى تحقيق شعاراته التاريخية القديمة ( بفتح كربلاء )! وفشلوا في ذلك فشلا ذريعا!، فقدم لهم الأميركان الفرصة وحققوا أمنيتهم القديمة و تقدموا نحو كربلاء و النجف وعموم العراق عبر وكلائهم وادواتهم ثم دخلوا بانفسهم وبقوات حرسهم الإرهابي و بجيوشهم من دعاة الصفوية السياسية و المذهبية ليستبيحوا العراق و يحولوه لمحمية طائفية مريضة و متخلفة وحيث تجمد البناء و التحديث و العصرنة و أنطلقت اشباح التاريخ من معاقلها السراديبية، فتصوروا وضعية بلد يقضي نصف أيام العمل السنوية في العطل الدينية و المذهبية و حفلات اللطم و الزار و الندب وشق الجيوب ؟ وتصوروا أوضاع بلد تمزقت الروابط الوطنية وحتى الأسرية فيه لصالح الإنحيازات الطائفية المريضة!؟، بلد باتت الجموع فيه لاهم لها سوى مضغ أحداث العصر الأموي!! و النوم في سراديب العصر العباسي!! و الأمل الموعود في عودة ( غودو )!!
لقد حقق الصهاينة و الصفويون اهدافهم المتوحشة واحقادهم التاريخية، و تكفل الأمريكان بتنفيذ أجندتهم الشيطانية في تقسيم العراق عبر حماية الصفويين و الإرهابيين فيه الذين أخذوا على عاتقهم تنفيذ المهمة بإتقان وحرفنة... مبروك لإيران الصفوية.. ومبروك لإسرائيل الصهيونية... لقد خططتم وصبرتم و نلتم مبتاغكم بدماء اهل المارينز... وهارد لك لاحرار العراق الذين يكافحون من أجل إفشال مخططات التقسيم و التشرذم في ظل اوضاع غير مريحة بالمرة... نعم لقد إنتصر الصفيونيون.. ولكنه إنتصار مؤقت بكل تأكيد، فالحرب لم تنته بعد... إنه فصل ستتبعه فصول قادمة.
التعليقات