بعد أن اجتمع يمين البلاد التونسية (ليبراليون وبعض الإسلاميين المعتدلين) ويسارها (الإشتراكيون والشيوعيون)، على قلب رجل واحد من أجل إنقاذ تونس من هيمنة حركة النهضة واحتكارها للحياة السياسية، وبعد أن نجحت ساحة باردو التي تشهد اعتصام المعارضة التونسية في أن تكون محجا للشيب والشباب والنساء والرجال والشغالين والأعراف على حد سواء مدعومين بمنظمات وطنية وهيئات مهنية ذات مصداقية ويشهد تاريخها بذلك (على غرار الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان)، لم تجد حركة النهضة، التي احترفت سياسة الهروب إلى الأمام، بدا من انتهاج سياسة فرق تسد مع ائتلاف المعارضة.

وتأتي في هذا الإطار شيطنة أنصارها وقيادييها للجبهة الشعبية (تحالف الأحزاب اليسارية والقومية) في أكثر من منبر في إطار حملة شعواء quot;لم يسبقهم إليها أحد من العالمينquot;، في مقابل توجيه رسائل الغزل إلى حركة نداء تونس ومؤسسها الباجي قائد السبسي ولقائه في باريس واعتباره شريكا في الحكم. فسبحان مغير الأحوال بعد تحول quot;أزلامquot; الأمس وquot;قادة الثورة المضادةquot;، هكذا وبقدرة قادر إلى quot;وسطيينquot; وquot;معتدلينquot; تطرح عليهم الحقائب السيادية وغير السيادية ويتم إغراؤهم بسكن قرطاج (مقر الرئاسة التونسية) لا لشيء إلا لتفكيك ما يسمى بجبهة الإنقاذ التي أرقت مضاجع النهضويين وأصابتهم في مقتل رغم محاولات الإنكار لطمأنة القواعد بالأساس.
إن هذه الألاعيب الصبيانية التي تنتهجها حركة النهضة والتي تنم عن مراهقة سياسية وعدم نضج في تسيير الشأن العام، وتغليب للمصلحة الحزبية عما سواها من المصالح، ستؤدي بالبلاد إلى ما لا يحمد عقباه من خلال إطالة أمد الأزمة. فبلادنا ليست العراق ولا الجزائر لتتحمل عشريات سوداء ولا حتى أشهرا أو أسابيع. ليس لدينا ما لهذه البلدان من مخزون طاقي هائل لنعوض خسائرنا الإقتصادية والإجتماعية وحتى الأمنية، فما يضيع اليوم قد نحتاج إلى سنوات أو عقود لاسترداده ومن ذلك حرفاؤنا الأوفياء في المجالين السياحي والمنجمي وكذا المستثمرون الذين وثقوا في بلادنا في وقت ما، وجلبوا أموالهم وقرروا الإقامة في ربوعنا الطيبة.
إن النجاح الوحيد الذي يحسب للنهضويين، ودون سعي منهم، هو جمعهم للمتناقضات وتوحيدهم ضد سياسات الحركة الهدامة لمكاسب دولة الوطنية. فالليبرالي الرأسمالي والشيوعي، ورغم التنافر الإيديولوجي باتوا في جبهة موحدة ضدهم، والدستوري البورقيبي والقومي الناصري مجتمعين معا للإطاحة بهم رغم العداء التاريخي بين الجانبين. كما أن التقاء المنظمة الشغيلة ومنظمة الأعراف على ذات الهدف وهو إنهاء استبداد حركة النهضة ليس بالأمر الهين، فلأول مرة تلتقي مصالح العمال وأصحاب الأعمال ويتأكد الجميع أنهم مستهدفون وقد تضرر كلاهما من السياسات المتبعة. فحتى الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان التي لم يعرف عنها غير دفاعها عن القضايا العادلة نراها اليوم تتخندق مع جبهة الإنقاذ وهي التي اكتوت بنار الإستبداد جراء دفاعها عن النهضويين في سنوات الجمر حين أبادهم بن علي. فهل جميع هؤلاء مخطئون وحركة النهضة ومن يدور في فلكها من quot;وزراء الصدفةquot; من أحزاب الموالاة وحدهم على حق؟
لقد عرف عن حركة النهضة الإخوانية عدم إيفائها بالتزاماتها ولا فائدة من تعداد وعودها الجوفاء وإخلالاتها فهي كثيرة ويدركها الرأي العام الوطني، كما عرف عنها جنوحها إلى إغراء البعض بفتات الحقائب الوزارية لضمان ولائهم ومن ثمة تتراجع عما وعدت به بتعلات واهية، ومن ذلك شماعة رئيس الجمهورية المنصف المرزوقي الذي يرفض باستمرار، بحسب النهضويين، تسمية هؤلاء في مناصبهم الموعودة. وقد تكرر هذا السلوك في أكثر من مرة سواء مع إحدى الشخصيات التي لعبت دورا بارزا في تقريب الحركة من القطريين بحكم إقامتها السابقة في الدوحة على أن تمنح حقيبة الخارجية كمكافأة حين تتولى الحركة الحكم، أو مع أخرى تترأس مركزا للدراسات وعدتها الحركة في وقت سابق بتسميتها بسفارتنا في واشنطن وكان المرزوقي باستمرار من يرفض رغم أن القاصي والداني يدرك أن رئيس جمهوريتنا مغلوب على أمره مع حلفائه النهضويين.
فعلى حزب نداء تونس ورئيسه السيد الباجي قائد السبسي أن يأخذوا العبرة ممن سبقهم في الوثوق بحركة النهضة وأن لا يتركوا عقد جبهة الإنقاذ ينفرط، لأن لاشيء يمنع النهضة من أن تتراجع عن وعودها وهو المرجح متى حققت هدفها الرئيس وهو ضرب الجبهة الديمقراطية المعارضة بعد أن تهدأ العاصفة. ولعل حادثة السيد محمد القوماني تبقى خير شاهد على هذا السلوك النهضوي البائس. فالرجل كان بصدد التأسيس لحزب سياسي كبير مع شركائه محمد الحامدي وبن غربية والبارودي وغيرهم من شباب التحالف الديمقراطي اليافع لكن حركة النهضة رأت خلاف ذلك محاولة إجهاض التجارب السياسية التي تلوح عليها بوادر النجاح فأغرته بحقيبة وزارية خلافا لإرادة حلفائه لكنها نكثت وعدها لاحقا وخسر الرجل المحترم والمناضل الكبير حلفاءه لا لشيء إلا لأنه وثق في من لا يحترم وعده.
فلا يمكن أن ينكر عاقل أن الجبهة الشعبية هي التي فكت عزلة نداء تونس الذي كان موصوما بأنه حزب الأزلام، كما أن النداء ساهم في تقريب الجبهة الشعبية من الدساترة وقاعدتهم الشعبية والجماهيرية العريضة التي لا يمكن أن يشكك فيها إلا الجاهل بالواقع السياسي للبلاد التونسية. وكلاهما اليوم بحاجة إلى الآخر من أجل الحد من تغول حركة النهضة منفردة على الحياة السياسية الأمر الذي سيعيد التونسيين إلى سنوات الإستبداد وهيمنة الحزب الواحد. فصاحب السلطة ميال إلى الإستبداد بها ما لم يجد رادعا والرادع هو وحدة التونسيين لقطع الطريق على الراغب في أن يسود من خلال فرقتهم.