لا يشك عاقل في أن التكفيريين في تونس هم قاعدة جماهيرية مهمة لحركة النهضة استنجدت بأصواتهم خلال الإستحقاق الإنتخابي السابق. ويرجح أن يتواصل الإعتماد على أصواتهم quot;الكريمةquot; خلال ما قد ينتظر البلاد من مواعيد انتخابية لو كتب لهذه الأزمة السياسية التي عصفت ببلادنا أن تمر بسلام.
ورغم الجفاء، الذي يلوح لبسطاء القوم، بين حركة النهضة والتيارات التكفيرية - والذي أطنب البعض في الحديث عنه من خلال التنظير لحصول قطيعة بين الجانبين بعد أن غرتهم انتقادات أبي عياض زعيم تيار أنصار الشريعة التكفيري في تونس لعلي العريض في أكثر من مناسبة حين كان الأخير على رأس وزارة الداخلية قبل أن يترأس الحكومة، وانتقادات زعيم حركة النهضة لهذا الشباب التكفيري في كثير من الأحيان وإثر كل عمل إرهابي يرتكبونه وهم أبناؤه الذين يذكرونه بشبابه - فإن الأمر يبدو بخلاف ذلك تماما ولا يعدو أن يكون سوى سوء فهم بين quot;أشقاءquot; تشبعوا تقريبا من ذات المدرسة الفكرية، وسرعان ما يتبدد سوء الفهم هذا بمجرد الشعور بوجود quot;خطر داهمquot; يهدد كليهما.
فحين رابطت المعارضة التونسية أما مقر المجلس الوطني التأسيسي بساحة باردو مطالبة بحل الحكومة والحد من صلاحيات المجلس الوطني التأسيسي (وحله بالنسبة للبعض)، هبت التيارات التكفيرية براياتها السوداء لنجدة حركة النهضة في اعتصامها المضاد المسمى quot;مساندة الشرعيةquot;، وكانت حاضرة بكثافة لافتة في الضفة المقابلة لاعتصام الرحيل. وفي القصبة في تلك quot;المليونيةquot; التي نظمتها حركة النهضة والتي جلبت لها حافلات النقل العمومي جماهير مدفوعة الأجر (سواء تعلق الأمر بمبلغ مالي أو بإفطار مجاني) من مختلف أنحاء الجمهورية، كان أيضا التيار التكفيري حاضرا بقوة لمساندة حركة النهضة التي استنجدت به للتعبئة في مواجهة quot;الكفارquot; أو العلمانيين على حد تعبير زعيم الحركة راشد الغنوشي.
وفي أكثر من موضع كان التيار التكفيري على الدوام خير سند للنهضة والنهضويين، كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. وهو ما يفسر التغاضي عن عدد لا يحصى من أعمال العنف التي ارتكبها محسوبون على هذا التيار وعلى رابطات حماية الثورة أيضا، سواء تعلق الأمر بالإعتداء على معارضين أو فنانين ورجال فكر أو نقابيين وحقوقيين. وهو ما يفسر أيضا التراخي الأمني في تتبع التكفيريين وملاحقتهم خلال الفترة التي سبقت الإغتيالات في غياب التعليمات من السياسيين الماسكين بمقاليد الأمور في البلاد الخضراء. كما يفسر أيضا هذا الإندماج العضوي بين حركة النهضة والتكفيريين، الجرأة التي أصبحت لدى هؤلاء في الضرب بمقومات الدولة عرض الحائط واستهداف عناصر جيشنا الوطني بتلك الطريقة الوحشية.
فأن يصرح السيد علي العريض حين كان وزيرا للداخلية بأن المتورطين في اغتيال الشهيد شكري بلعيد ينتمون إلى تيار تكفيري متشدد لهو أمر مثير للإستغراب والدهشة. فكأن حركة النهضة بهذه التصريحات تتهم نفسها بنفسها باعتبار انتماء الطرفين (النهضة والـquot;الجهاديينquot;) إلى ذات الخندق في مواجهة المدافعين عن مكتسبات الدولة الوطنية ومن يوصفون بـquot;الحداثيينquot; وأولئك المحسوبين على التيارات اليسارية وكذا الحقوقيين والديمقراطيين الليبراليين والنقابيين.
فبعض قيادات حركة النهضة لا تختلف عن أبي عياض (زعيم التكفيررين في تونس) في نظرتهم للأمور ولمستقبل البلاد وفي مواقفهم من الديمقراطية والحريات، وبالتالي لا يكاد المرء يميز هذا من ذاك، خاصة وأن كلاهما يعادي العلمانيين أو quot;الكفارquot; بتعبير أدق. فهل الدعوة إلى قطع أيدي وأرجل المعتصمين من خلاف وربما صلبهم في جذوع النخل التي أطلقها نائب من حركة النهضة، أو الدعوة إلى إراقة دماء من ينقلبون على الشرعية في الشوارع التي أطلقها نائب نهضوي آخر، أقل خطورة من قتل وذبح عناصر جيشنا الوطني واستهدافهم بالعبوات الناسفة وقتل الشهيدين شكري بلعيد ومحمد براهمي غيلة وغدرا في وضح النهار، ومن سحل الشهيد لطفي نقض وقتله بدم بارد على مرأى ومسمع من الجميع في خضرائنا التي تتوشح بالسواد ثكلى على أبنائها؟
أما ما يبدو من جفاء بين الجانبين (حركة النهضة والتكفيريين) فهدفه بالأساس إقناع الرأي العام الدولي قبل الوطني، باختلاف الأجندات بين الجانبين خاصة وأن البعض ممن خدم ولازال حركة النهضة دون أن يحظى بالمكانة التي تليق بما أسداه من خدمات، روج كما النهضويين أنفسهم، لدوائر غربية (ولازال يروج) بأن quot;الإسلام السياسيquot; المعتدل الذي تمثله حركة النهضة هو خير ضامن للمصالح الأمريكية والغربية في المنطقة باعتبار قدرته على مجابهة quot;الإسلام السياسي المتطرفquot; الذي تخشاه هذه الجهات. وبالتالي تقتضي هذه الحملة الترويجية من حركة النهضة الوقوف على مسافة من التكفيريين لإطالة أمد حكمها والإبقاء على الدعم الأمريكي. كما تقتضي أيضا التحالف مع أحزاب علمانية تقوم لاحقا باحتوائها والسيطرة على القرار السياسي داخلها على غرار ماهو حاصل مع حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، وبدرجة أقل مع حزب التكتل.
لكن هذه الحيل لم تعد تنطلي على عاقل، حيث سقطت ورقة التوت وبان بالكاشف في ساحتي باردو والقصبة بالعاصمة التونسية مدى الإرتباط الوثيق بين الطرفين في وقت مازالت فيه دماء عناصر جيشنا الوطني الزكية وشهدائنا السياسيين الأبرار لم تجف بعد. فتواجد التكفيريين جنبا إلى جنب مع النهضويين في ذات الخندق، وفي هذا الظرف الأليم ليس بالأمر الهين الذي بإمكاننا أن نتقبله بصدر رحب ونتغاضى عنه خاصة وأن الكلفة التي يدفعها الشعب ودولته جراء الإيديولوجيا التي تحملها هذه العناصر التكفيرية هي باهضة وباهضة جدا.