عاد موضوع ما يسمى بـquot;قانون تحصين الثورةquot; إلى واجهة الأحداث في تونس مع اقتراب موعد عرضه على الجلسة العامة للمجلس الوطني التأسيسي. وعاد معسكر quot;الثوريين الجددquot; إلى صم آذان الرأي العام الوطني بتبريراته الواهية التي فقدت الألق الذي ميزها طيلة الفترة الماضية مع عجزهم وحلفائهم على تحقيق أهداف الثورة والرفاه للمواطن التونسي الذي أطاح من أجله بنظام بن علي.
فعوض أن تنصرف جماعة الحكم وحلفاؤها من آل المؤتمر ووفاء وحزب محمد عبو الجديد ومن والاهم بما في ذلك quot;أذرعهم العنيفةquot; المسماة quot;رابطات حماية الثورةquot;، إلى سياسة شؤون العباد والبحث عن مخارج للأزمات التي غرقت فيها البلاد، تشرئب أعناقهم إلى الإستحقاق الإنتخابي القادم، وترعبهم فرضية مغادرة الكراسي الوثيرة، ويصرون على إقصاء الخصوم السياسيين الحقيقيين لتخلو لهم الساحة لمنافسة نمور الورق خلال الإستحقاقات القادمة. وهو ما يجعل الشبهة تحوم حول حقيقة معارضتهم لبن علي في وقت سابق، هل تعلق الأمر بمصلحة تونس العليا؟ أم أنه مجرد رغبة في الإستحواذ على العروش التي تربع عليها ساكن قرطاج الأسبق وحاشيته؟
تساؤلات
وإذا فرضنا جدلا أن الجماعة جادة في المحاسبة، وأن الهدف من وراء تحركاتها لتمرير قانون الإقصاء هو مصلحة الوطن العليا وخير التونسيين، فلماذا لا يتم فتح أرشيف البوليس السياسي وتعرض الملفات على القضاء ليقول كلمة الفصل بحق كل من أجرم بحق التونسيين؟ هل أن هذا الأرشيف بيد المعارضة حتى ينادي شيخنا الوقور راشد الغنوشي بفتحه أمام الملإ؟ أليس هو الحاكم بأمره في هذه البلاد؟ أليس استبلاه للرأي العام في تونس وللبسطاء من قواعد حركة النهضة التي صوتت quot;لمن يخاف اللهquot; ومن وهبها أضاحي العيد خلال موسم الإنتخابات فحسب، أن يدعو من في الحكم إلى فتح أرشيف البوليس السياسي؟
ثم ما قيمة العدالة الإنتقالية لو تم منع الناس لمجرد الشبهة من ممارسة العمل السياسي؟ هل كان يجب على التونسيين أن يمتنعوا عن خدمة بلادهم ويقبعوا في بيوتهم لأن بن علي في الحكم؟ ألا يوجد على سبيل المثال من ترأس إحدى الجماعات المحلية في عهد بن علي من نظيفي اليد وممن عملوا بإخلاص وتفان لأجل الصالح العام؟ ما ذنب هؤلاء ليتم أخذهم بذنب من أفسد وأهلك الحرث والنسل؟ هل quot;جماعة الإقصاء الجددquot; على يقين راسخ بأن جميع من يشملهم القانون كانوا يساندون بن علي في قمعه لمعارضي حكمه؟ هل يعلمون الغيب وما تخفي الأنفس حتى يحاسبوا خلق الله من دون أدلة دامغة؟ أية عدالة إسلامية هذه التي يتبناها حزب يدعي أن مرجعيته إسلامية؟ هل هذه هي عدالة الإسلام وأخلاقه المستوحاة من القرآن الكريم وسيرة سيد البشر؟
تاريخ المنتصر
إن محاسبة من أذنب في حق التونسيين سواء في العهد السابق أو حتى في quot;عصر النهضةquot; أمر لا مفر منه لكن من خلال القضاء والعدالة الإنتقالية. ولتشمل المحاسبة الجميع quot;السابقون واللاحقونquot; أي الخلف والسلف على حد سواء. فالنظام السابق وإن كان مسؤولا عن تجاوزات وجرائم لا تحصى، فهذا النظام مسؤول بدوره عن انتهاكات، وإن بدرجة أقل بكثير، سواء حين كان في المعارضة أو بعد توليه لمقاليد الأمور في البلاد. فإذا أقصينا من سكت في عهد بن علي على الظلم وسنوات الجمر التي طالت الإسلاميين وغيرهم من معارضي الحكم، فيجب أن نقصي من سكت من النهضويين على إحراق ذلك الحارس في عملية باب سويقة التي كنت أعتقد شخصيا مثل بسطاء هذا الشعب أنها من فبركات بن علي، ففوجئت بعد الثورة باعتراف آل النهضة بارتكابها من قبل شباب غير منضبط بتعليمات القيادات.
وإذا رغبنا في المحاسبة علينا أيضا أن نفتح الأرشيف لنعلم حقيقة تفجيرات سوسة والمنستير والإعتداءات بـquot;ماء الفرقquot; وأحداث 9 أفريل 2012 والإعتداء على مقر الإتحاد العام التونسي للشغل وجريمتي اغتيال لطفي نقض وشكري بلعيد والإعتداءات على الصحفيين وأهل الفكر، وشبهة الصفقات التي تحدث البعض أنها تمت مع بعض رجال الأعمال ممن نالوا مرضاة حكام تونس الجدد وغيرها. فالعدالة تقتضي بأن لا يكتب المنتصر التاريخ مثلما يحصل في تونس اليوم حيث يسعى أنصار الموالاة إلى البروز في ثوب الملاك وتتم شيطنة الفريق المقابل ودون تمحيص، رغم أننا لا ننكر أنه يتضمن كثيرا من شياطين الإنس.
الإعتذار
وحقيقة الحال أن الإعتذار التي تحدث عنه الشيخ راشد الغنوشي يمكن أن يكون حلا لهذه المعضلة في حال أصرت جماعة الحكم على quot;تحصين الثورةquot; بعيدا عن القضاة وأروقة المحاكم، وكفى الله المؤمنين شر القتال، خاصة وأن تونس بحاجة إلى جميع أبنائها. والنهضويون الذين هم جزء رئيسي من نسيجنا الإجتماعي باعتبارهم أهلنا وذوونا وأبناء عمومتنا وجيراننا وزملاؤنا، مطالبون أيضا وهم في الحكم بالعدل في الإعتذار . فإذا كان مفروضا على كل من شمله قانون الإقصاء أن يعتذر للشعب التونسي فهم أيضا مطالبون بأن يعتذروا لـquot;شعبنا الكريمquot; عن باب سويقة وأحداث 9 أفريل وغيرها من الأفعال المجرمة التي تحوم الشبهة حول ارتكابهم لها، حتى ولو لم يثبت قضائيا تورطهم فيها باعتبار وأنهم يطالبون من لم يثبت تورطه في جرائم بن علي بالإعتذار لمجرد أنه مشمول بقانون الإقصاء السياسي المسمى زورا وبهتانا quot;تحصين الثورةquot;.
بهذا فقط يمكن لحركة النهضة أن تكون في مستوى الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان النهضوي الذي نرجو أن لا يكون ظلوما جهولا، وأن يدخل التاريخ من بابه الواسع وأن يحمل في قلبه رحمة سيد البشر (ص) بأهله في مكة حين أمن على حياة من يدخل بيت أبي سفيان وحين نادى في عصاة قومه قائلا quot;اذهبوا فأنتم الطلقاءquot;. وبدون هذا فإن المرجعية الإسلامية للحركة تصبح بلا معنى ومجرد شعارات ذات غايات إنتخابية ووسيلة للوصول إلى كراسي السلطة وممارسة الحكم لا غير.
quot;الطريقة الأردوغانيةquot;
أما إذا أصر quot;آل الحكمquot; على المضي في غيهم quot;لا يخشون في الشر لومة لائمquot; وهو أمر متوقع الحدوث. فإنهم سيسيئون إلى أنفسهم وإلى صورة تونس في الخارج ولن يمثل هذا القانون عائقا أمام حزب نداء تونس بزعامة رئيس الحكومة الأسبق الباجي قائد السبسي، وحلفائه للوصول إلى الحكم والحصول على الأغلبية باعتبار وأن أغلب قيادات هذا الحزب لا يشملها هذا القانون. ويرى البعض في هذا المجال أن رب ضارة نافعة وأن هذا الإقصاء سيجعل حزب نداء تونس quot;يضخquot; شبابا لم تطله لوثة الزمن الغابر يمثله في الإستحقاقات الإنتخابية القادمة قادرا على اكتساح صناديق الإقتراع والحصول على ثقة أبناء شعبه. أما المقصيون فسيمثلون رصيدا انتخابيا له باعتبارهم أصواتا ترجح كفته. ويشار إلى أن quot;النداءquot; بمعية حلفائه سواء في الإتحاد من أجل تونس أو مع حلفائه المفترضين في قادم الأيام إذا كتب للجبهة الديمقراطية أن تصبح واقعا، قادر على إلغاء هذا القانون بمجرد وصوله إلى الحكم، وعلى تعديل الدستور (الذي لا يرقى إلى مرتبة القرآن من حيث عدم المساس به إن تغييرا أو تعديلا حتى لو تضمن فصلا يمنع ذلك و لسنوات محددة) ما قد يمكن قائد السبسي أو غيره من تحقيق مبتغاهم.
ألم يفز حزب العدالة والتنمية في تركيا بأول انتخابات خاضها سنة 2002، وكان أردوغان ممنوعا من رئاسة الحكومة بسبب حكم قضائي، فترأسها عبد الله غول لفترة وجيزة إلى حين إتمام الإجراءات القانونية اللازمة لرفع الحظر عن سيد الأناضول، quot;الطيبquot;، ليصبح quot;صدرا أعظمquot; في عصر العثمانيين الجدد؟ ألم يحصن بن علي نفسه وأفراد عائلته من المحاسبة في الدستور القديم؟ ألم يسن القوانين الإنتخابية التي تقصي معارضيه وبالجملة؟ هل لهذه القواعد الدستورية والقوانين من أثر؟