تثير تصرفات النهضويين وتصريحاتهم في الآونة الأخيرة، وكذا سلوكياتهم السياسية الكثير من الريبة، وتزعزع القليل من الثقة التي منحها لهم البسطاء والمغرقون في الطيبة من أبناء المعارضة التونسية على إثر quot;تكرمهمquot; وقبولهم بالجلوس في مائدة الحوار الوطني جنبا إلى جنب مع الجميع ودون إقصاء.
فبعد تلك الجلسة quot;التاريخيةquot; التي كشروا فيها عن أنيابهم داخل المجلس التأسيسي برفضهم وصف الهيئة المؤقتة المشرفة على القضاء العدلي بـquot;المستقلةquot;، جاء مشروع الدستور (الذي قدمه رئيس المجلس مصطفى بن جعفر في لحظة أرادها أن تكون تاريخية، ولم تكن كذلك، في ذكرى عيد النصر وعودة الزعيم الحبيب بورقيبة المظفرة في الأول من الشهر السادس من سنة 1955) ليميط اللثام عن النوايا الخفية في تكريس الإستبداد والهيمنة على البلاد والعباد ونشر الخراب والفساد.

الأمن والقضاء
فإذا سلمنا جدلا بأن أغلب فقهاء وجهابذة القانون الدستوري ورجال القانون عموما في تونس، ومعهم quot;معارضة الصفر فاصلquot; (وصف تصف به حركة النهضة بغرور معارضيها بالنظر الى نتائجهم في الإنتخابات) وquot;إعلام العارquot; (نعت تطلقه النهضة على الإعلام الذي ينتقدها) وأزلام النظام السابق، هم من الظلام (بضم الظاء وشد اللام) والمغرضين والراغبين في إجهاض مشروع حركة النهضة الحضاري ووأد مسيرتها الإصلاحية وأنهم حاقدون، وأن الإتهامات التي يوجهونها للحركة بالرغبة في إعادة إنتاج الإستبداد، وبتبنيها لخطاب مزدوج ولسلوك يتنافى مع أقوال حمائمها، هي مجرد أكاذيب. فلتوضح الحركة للرأي العام التونسي سبب عدم إدراج فصل يجعل من المؤسسة العسكرية، مؤسسة جمهورية بعيدة عن التجاذبات السياسية. ما ضرها لو كان الأمن والجيش جمهوريين لا يتأثران بالتجاذبات السياسية والإنتماءات الحزبية؟
وعلى الحركة أيضا أن توضح في بيان للرأي العام التونسي سبب تجاهل إقرار فصل ينص صراحة على أن النيابة العمومية مستقلة ولا تخضع لسلطة وزير العدل. وليكن عذرها مستساغا لا يمت بصلة للأعذار التي قدمها مقرر الدستور الحبيب خذر، تستطيع من خلاله الضحك على ذقون العامة، لأنه صراحة، لا يوجد مبرر بإمكانه أن يدحض شبهة إعادة إنتاج الإستبداد ومحاولة تطويع السلطة القضائية لضرب الخصوم السياسيين عن حركة النهضة. فالتجربة الحالية والسابقة في تونس أثبتت أن الراغب في الهيمنة على دواليب الدولة وإخماد الأصوات المعارضة عليه أن يمسك بالقضاء بيد وبقوى الأمن والجيش بيد أخرى ناهيك عن الإعلام ومنظمات المجتمع المدني، وقد بدأ أول الغيث بإتحاد الفلاحين ولا يعرف إلى أين سينتهي بنا المطاف.

الحد من الحريات
ولن نضيف جديدا إذا أشرنا إلى حالة الفزع التي شعر بها خبراء القانون الدستوري في بلادنا وكذا كل دارس أو قارئ عابر مر مرور الكرام على مشروع دستورنا الجديد، فيما يتعلق بالحدود التي تم إقرارها على الحريات العامة والخاصة. فهي تعكس لكثرتها رغبة في الهيمنة والقمع ومصادرة الحريات، تشعر وأنت تطالعها بروح حاقدة ساخطة وأنفس منقبضة ضاق صدرها بما تم توجيهه لها من انتقادات، تفتقد إلى الحلم والرفق والرحمة بالعباد وتبحث في أدق التفاصيل للتضييق على أبناء الوطن. فمشروع الدستور لم يكتف فيه مشرعونا الأفاضل من المؤسسين للجمهورية الثانية بالحد من كل حرية على حده في الفصل المخصص لها، بل ذهبوا أبعد من ذلك لإقرار بند عام يتضمن التضييق على جميع الحريات المنصوص عليها في هذا quot;الدستورquot;.
لقد أجمع فقهاؤنا على أنه لا مبرر لهذه التضييقات، وكان بالإمكان تلافيها مثلما تم تلافي إقرار بند يجرم التطبيع مع الكيان الصهيوني بتعلة أن الأمر لا يمكن أن يرقى إلى مستوى القاعدة الدستورية وأن القوانين وحدها من تختص بهذا الأمر. وهي مقولة رددها أحدهم فتلقفها أنصار الفريق الحاكم وأمعنوا في صم الآذان بها فصدقها خيالهم الخصب وأصبحت قاعدة تفتقر إلى الإستثناءات. ففي عدد من دساتير quot;العالم الحرquot; وفي بلدان هي مراجع في مجال التقنين والدسترة تم إدراج مسائل تفصيلية (هي عادة من اختصاص التشريعات أو القوانين العادية) في الدستور على غرار مسألة تنظيم المياه في دستور إحدى البلدان السكندنافية التي عاشت مشاكل في هذا المجال قبل أن يقرر مشرعوها دسترة هذه المسألة. فالحجة التي قدمها النهضويون لتبرير تخليهم عما كان يعتقد أنه من ثوابتهم، هي واهية وغير مقنعة. والحقيقة أنهم يخشون في الحق لومة لائم، ومن سواه؟ العملاق الأمريكي الذي انتقدوا في وقت سابق خضوع حكام تونس المطاح بهم له، فإذا بهم على ذات الدرب سائرون.

صلاحيات الرئيس
كما يثير إصرار نواب النهضة على الحد من صلاحيات رئيس الجمهورية لصالح رئيس الحكومة الكثير من نقاط الإستفهام. فهل ضمن quot;آل النهضةquot; تربعهم على عرش القصبة (مقر رئاسة الحكومة) إلى أبد الآبدين حتى يقزموا من صلاحيات ساكن قرطاج (مقر رئاسة الجمهورية)؟ أم أن الأمر يتعلق بنظرة آنية لا تستشرف المستقبل توقفت لديها عجلة الزمن في لحظة الإعلان عن نتائج انتخابات 23 أكتوبر 2011. ألا يعلم إخواننا وأصدقاؤنا وأبناء عمومتنا و ذوونا في حركة النهضة أن نتائج أي اقتراع لا تعبر إلا عن اللحظة التي أدلى فيها الناخبون بأصواتهم، وأن ممارسة الحكم مع العجز عن إدارة شؤون البلاد تجعل شعبية أي طيف سياسي مهما بلغت نضالاته تتآكل وتنزل إلى الحضيض، أين هو حزب العمال في بريطانيا التي آوت قادة النهضة؟ ألم يكن في عشرية التسعينات في عنان السماء ونتيجة لسياسات بلير الخاطئة دفع غوردن براون الثمن ومني الحزب بهزيمة نكراء أمام المحافظين؟ هل حسبوا أنفسهم خالدين من دون الواحد القهار بعد أن غرهم بالله الغرور وزين لهم سوء أعمالهم؟ أم أنهم صدقوا quot;السوبرمانquot; الذي صدح بالأمس القريب في صفاقس بأنهم لا محالة فائزون خلال الإستحقاق القادم والذي يليه والذي يليه؟
إن هذا السلوك النهضوي الغريب لا يمكن تفسيره إلا باحتمالات ثلاثة لا رابع لها. فإما أن الجماعة أصابها الغرور واعتقدت أن نتائج انتخابات 23 أكتوبر هي أبدية واعتبروها استفتاء شعبيا وأن التونسيين لم يعودوا بحاجة لسواه. أو أنهم عازمون على انتهاج سياسة تزوير الإنتخابات التي انتهجها من سبقهم في حكم هذه البلاد، والتزوير لا يعني بالضرورة تغيير أوراق بأخرى، وإنما يكفي لوصم الإنتخابات بالزور أن تمنع المعارضة من عقد اجتماعاتها، وتسلط رابطات حماية الثورة عليها، ويتم ترهيب المواطنين وإجبارهم على التصويت لقائمات النهضة، وإقصاء الخصوم السياسيين الحقيقيين من خلال قانون ما يسمى بـquot;تحصين الثورةquot;، وترك المنافسة محصورة بينهم وبين نمور الورق، وهو أمر متوقع الحدوث. لكن على حكامنا الأفاضل الجدد أن يأخذوا العبرة ممن سبقهم إلى حكم هذه البلاد، وسياسة العباد، حيث خرجوا مذمومين مدحورين في نهاية المطاف، ولم ينفعهم التزوير في شيء سوى في إثقال موازين سيئاتهم ليلاقوا ربهم وقد بلغت ذنوبهم عنان السماء.

دعم خارجي

ويذهب البعض في تفسيره لهذا الإستبداد الذي تؤسس له الحركة الحاكمة من خلال مشروع الدستور الجديد بثقة قياداتها العمياء في الخارج، فهي تعول على دعم الولايات المتحدة الأمريكية التي باتت محج هذه القيادات في الآونة الأخيرة لتأبيد حكمها، فهو عصرهم وفقا لأغلب المحللين بعد أن حسم العم سام أمره وسار باتجاه دعم ما يسمى quot;الإسلام المعتدلquot; للإخوان لمجابهة quot;الإسلام المتطرفquot; للسلفية الجهادية. لكن في هذه الحال على حكامنا النهضويين الميامين أن يدركوا أن هناك من سبقهم إلى التمسح على أعتاب البيت الأبيض وحاز على رضا صناع القرار في واشنطن لعقود وكان يتمتع بحظوة منقطعة النظير وأسدى خدمات بلا حساب لكنهم تخلوا عنه حين اقتضت المصلحة ذلك. ولكم في بن علي ومبارك وصالح عبرة يا أولي الألباب.
فحركة النهضة لا ولن تكون بأهمية مبارك في الإستراتيجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط مهما بلغ حجمها ومهما أسدى قادتها من خدمات للعم سام. ولن تضمن الحركة وأنصارها إذا أصروا على هذا quot;الدستورquot; مستقبلا قضاء مستقلا وأمنا وجيشا محايدين يوفرون لهم الحماية في حال غادروا كراسي الحكم. وسيجدون حريات مصادرة تمنعهم من ممارسة دورهم المعارض على أكمل وجه في مشهد شبيه بما كان عليه الأمر خلال العهد السابق. فمن سيخلف النهضة وحلفاءها إن عاجلا أم آجلا ومهما طال الزمن، على عروش قرطاج والقصبة وباردو (مقر مجلس النواب) سيجنح إلى الإستبداد بدستور النهضة في صيغته الحالية، سواء بقصد منه أو بدون قصد، وسيكتوي النهضويون بما قدمت أيديهم مثلما اكتوى بها من سبقهم، إذا لم يتداركوا أمرهم وينصتوا إلى انتقادات الخبراء ويأخذوها بعين الإعتبار مادام أمامهم متسع من الوقت، واللبيب من الإشارة يفهم.