مازال الشطر اليوناني من قبرص يعيش على وقع أزمته الإقتصادية التي يبدو أنها تتفاقم وتهدد بحصول كارثة يصعب محو آثارها لعقود. وهو ما دفع بكثير من المراقبين إلى اعتبار أن الأزمات هي القدر المحتوم لمنطقة اليورو التي تحتاج هياكلها إلى مراجعة شأنها شأن إتحاد القارة العجوز.

فالجزيرة المتوسطية الخلابة المقسمة منذ 1974 إلى شطرين، (واحد يوناني يعترف به المجتمع الدولي ويمنحه عضوية كاملة في المنتظم الأممي، وآخر تركي في شمال الجزيرة لا تعترف به سوى أنقرة)، تعيش أحلك الفترات في تاريخها الحديث، ما دفع بالبعض إلى اعتبار أن هذه الأزمة لا تقل خطورة عن تلك التي شهدتها البلاد أواسط سبعينات القرن الماضي وانتهت باقتحام الجيش التركي للبلاد وشطرها إلى نصفين.
الحلم الأوروبي
لقد كان ولوج النادي الأوروبي حلما راود القبارصة اليونانيين لسنوات ورغب فيه قادتهم بشدة وساندتهم في ذلك أثينا العضو في هذا الإتحاد. وتحقق الحلم، الذي تحول لاحقا إلى كابوس، بحسب البعض، في شهر ماي من سنة 2004 حين قرر الأوروبيون التوسيع في اتحادهم ليشمل بلدانا من شرق القارة رغم أنها لم تكن مؤهلة وفقا للمعايير التي تم وضعها في وقت سابق.
وقد دفع إنضمام نيقوسيا ذاك، القبارصة اليونانيين إلى التشدد في مفاوضاتهم مع الجانب التركي بشأن توحيد الجزيرة. واقتنع بعضهم برأي ساد حينها مفاده أن القبارصة الأتراك سيهرولون إلى الجزء اليوناني من الجزيرة دون شروط بمجرد انضمام قبرص اليونانية إلى الإتحاد الأوروبي. وتم رفض خطة كوفي عنان التي تقدم بها الأمين العام السابق للأمم المتحدة وكان ذلك خطأ أجمع أغلب المراقبين على أن قبرص تدفع ثمنه في الوقت الراهن.
العدوى
لقد جعل انضمام قبرص إلى الإتحاد الأوروبي في مرحلة أولى، وإلى منطقة اليورو في مرحلة ثانية، الدولة لا تتحكم بسعر عملتها وغير قادرة على سن القوانين والتشريعات المتعلقة بالسياسات الإقتصادية المتبعة. وجعل البلاد رهينة لما تقرره القوى الكبرى في الإتحاد على غرار فرنسا وألمانيا. فلم تعد نيقوسيا قادرة مثلا على التخفيض في سعر صرف عملتها للإستقطاب السياحي أو لتشجيع الصادرات عند الحاجة، أو الترفيع فيها.
وساهم تعثر مفاوضات توحيد شطري الجزيرة بين قبرص اليونانية وقبرص التركية (الذي يتحمل مسؤوليته الطرفان، اليونانيون بفعل تعنتهم ورفضهم لخطة عنان والأتراك بفعل جنوح ناخبيهم للتصويت إلى اليمين القومي المتشدد الرافض لتقديم التنازلات ممثلا في الرئيس درويش إيروغلو) في الإضرار بمصالح الجانبين. حيث ربط القبارصة الأتراك مصيرهم بمصير أنقرة وفي المقابل مثلت أثينا بالنسبة للقبارصة اليونانيين المرجعية في الغالبية العظمى من القرارات التي تم اتخاذها والمتعلقة بمستقبل الجزيرة. وبات من الطبيعي القول بأن حصول أزمة في اليونان تعقبه أزمة مماثلة في قبرص اليونانية لأن quot;العدوىquot; سريعة الإنتشار في ذات الجسد.
ضرائب إضافية
ويرى أغلب المحللين بأن الحلول التي اقترحها الأوروبيون على الجانب القبرصي في بروكسيل لن تحل الأزمة بل على النقيض من ذلك تماما ستفاقمها. فمن بين الإجراءات التي اقترحها الجانب الأوروبي وسار في ركابها الجانب القبرصي هي تسليط ضرائب إضافية على الودائع (وأغلبها أجنبية روسية تحديدا إضافة إلى ودائع تعود لبلدان عربية على غرار لبنان) في البنوك القبرصية.
وسيؤدي هذا الإجراء بحسب أغلب الخبراء والمحللين إلى هروب المودعين الأجانب من البنوك القبرصية إلى quot;جنان ضريبيةquot; أخرى ويفرغ المؤسسات المالية في الجزيرة من السيولة اللازمة لخلق الحركية المالية وإنعاش الإقتصاد. وسيهز من ثقة المستثمرين الأجانب في الجزيرة القادرة على الجذبين السياحي والمالي متى توفرت الظروف الملائمة لذلك.
الغاز
ويرى بعض المراقبين بأن ما دفع الأوروبيين إلى تشجيع قبرص على اتخاذ هذه الإجراءات، هو سعيهم بمعية الولايات المتحدة وإسرائيل إلى دفع الوجود المالي الروسي الكثيف إلى مغادرة البلاد، لكي تعكف الشركات الأوروبية والأمريكية والصهيونية على استخراج وتسويق الغاز الطبيعي المكتشف حديثا وبكميات كبيرة قبالة الشواطئ القبرصية وكذا ساحل بلاد الشام (شمال فلسطين ولبنان وسوريا).
أي أن الأوروبيين لم يتحركوا لنجدة القبارصة اليونانيين، وإنما لإنقاذ هيكلهم الإتحادي من الإنهيار، بالدرجة الأولى، وكذلك من أجل مصالح كبرى شركاتهم النفطية التي تسيل لعابها محروقات قبرص ومخزونها الطاقي في شرق المتوسط. بل ويذهب بعض المحللين أكثر من ذلك إلى حد اعتبار الرئيس القبرصي الجديد والمنتخب حديثا، نيكوس أناستاسيادس قد quot;جيء بهquot; إلى الحكم لتحقيق هذه الغاية.
الخروج من منطقة اليورو
ويذهب البعض إلى اعتبار أن خروج كل من اليونان وقبرص اليونانية من منطقة اليورو هو الحل الأمثل لتجاوز الأزمات التي يعيشها البلدان، ما لم تتغير المنظومة الأوروبية باتجاه مرونة أكبر تمنح الدول الأعضاء حرية في التحكم في اقتصاديتها وتكف عن فرض سياسة مالية موحدة على الجميع. وهي حلول كان دعا إليها رئيس الوزراء البريطاني كاميرون لإنقاذ بلاده، وقوبلت دعواته باستهجان من الجانبين الألماني والفرنسي.
كما أن قبرص التي طالما ساندت الديبلوماسية التونسية في بدايات الإستقلال في معاركها في منظمة الأمم المتحدة ضد الإستعمار الفرنسي سواء في أحداث quot;ساقية سيدي يوسفquot; أو في معركة الجلاء (التي خاضها الجيش التونسي الفتي ضد المستعمر لإجباره على مغادرة آخر قاعدة عسكرية احتفظ بها في مدينة بنزرت الشمالية)، مطالبة بالتوحد مجددا أي بعودة الجميع إلى طاولة المفاوضات، والبحث عن حلول كفيلة بفك ارتباط الجانبين بأثينا وأنقرة وخلق دولة مستقلة في قرارها تبحث عن تحقيق مصالح مواطنيها بقطع النظر عن انتمائهم العرقي من خلال اقتصاد قوي قادر على الصمود أمام الرياح العاتية لأزمات المنظومة الرأسمالية خاصة وأن للجزيرة قدرة على الجذب ولديها تنوعا في مصادر الدخل.