تعود جذور الحركة النقابية في تونس إلى أواسط عشرينات القرن الماضي حيث قام الزعيم النقابي محمد علي الحامي بتأسيس جامعة عموم العملة التونسيين مع إطلالة سنة 1925 للدفاع عن حقوق عمال أبناء الخضراء في وجه المستعمر الفرنسي الذي شن عليها حملة شعواء. وفي أواسط الأربعينات من نفس القرن بادر عمال تونسيون يتزعمهم الزعيم النقابي التاريخي الشهيد فرحات حشاد إلى تأسيس الإتحاد العام التونسي للشغل الذي انطلق في مسيرة حافلة بالنضالين السياسي والإجتماعي.
فقد قاد الحركة الوطنية وقاوم المستعمر الفرنسي خصوصا حين اعتقلت باريس الزعماء السياسيين ونفتهم خارج البلاد ما أدى إلى اغتيال أمينه العام فرحات حشاد سنة 1952 على يد عصابة اليد الحمراء الفرنسية ومحاولة فرنسا إلصاق تهمة الإغتيال بالزعيم الحبيب بورقيبة الذي كان معتقلا ومنفيا خارج البلاد. وكانت للإتحاد صولات وجولات في الدفاع عن حقوق العمال زمن حكم بورقيبة ووصل الصدام بينه وبين النظام التونسي إلى حد اعتقال مناضليه وإيداعهم في السجون والتصادم في الشارع مع قوات النظام في أحداث دموية شهدها تاريخ تونس الحديث لعل أشهرها حوادث سنة 1978 أو ما عرف يومها بالخميس الأسود حيث سقط من التونسيين الكثير من القتلى والجرحى وكذا فيما عرف بثورة الخبز سنة 1984.
وكان للإتحاد ممثلا بفروعه الجهوية دورا فعالا في إسقاط نظام بن علي. حيث أطرت الإتحادات الجهوية للشغل المسيرات الإحتجاجية في الولايات وأصرت على جعلها سلمية. والإتحاد أيضا هو الذي حدد تاريخ هروب الرئيس الأسبق من تونس فهو الذي اختار يوم 14 جانفي (يناير) للإضراب العام وخروج الناس بتلك الأعداد الكبيرة من ساحة محمد علي أين مقره إلى شارع الحبيب بورقيبة حيث وزارة الداخلية رمز القوة في نظام بن علي.
فكل من وقف بوجه الإتحاد العام التونسي للشغل عبر التاريخ - سواء كان المستعمر الفرنسي أو حكام تونس- إلا وأصابته لعنة الإتحاد وكان مصيره الإندثار فيما بقي الإتحاد صامدا شامخا لا يتزعزع مدافعا عن حقوق العمال التونسيين يمارس دوره الوطني. وقد أدرك بن علي هذه الحقيقة فنزع طيلة سنوات حكمه إلى مهادنته وإغراء قادته على غرار إسماعيل السحباني (قبل أن ينقلب عليه) وعبد السلام جراد وغيرهما بالمال والجاه ليتجنب quot;شرهquot; ومعارضته الشرسة لنظام الحكم. ولعل من أسباب بقاء بن علي متربعا على عرش قرطاج لأكثر من عقدين هو تحييده للمنظمة الشغيلة التونسية الأعرق في الوطن العربي برمته.
لكن حكام تونس الجدد من الإسلاميين، وبعد أن غرتهم نتائج الإنتخابات الأخيرة التي تحصلوا فيها على أغلبية مريحة، وبفعل قلة الخبرة في سياسة شؤون البلاد، استهانوا بالإتحاد وبقوته التي يستمدها من خلال التصاقه بالطبقات الكادحة وبقدرته على الحشد وعلى تعطيل المرافق العامة متى شاء، واختاروا الدخول معه في معركة كسر عظم حشدوا لها أنصارهم في مختلف الجهات تماما مثلما فعلوا مع الإعلام والنقابات الأمنية وجمعية القضاة، الأمر الذي عاد بالوبال على البلاد وعلى مسيرتها التنموية التي أصبحت معطلة بفعل الإضرابات المتكررة للنقابيين ورفض الحكومة في عناد غير مبرر الإستجابة لمطالبهم التي والحق يقال فيها العادلة وفيها المجحفة.
فإدارة البلاد في هذا الظرف الإستثنائي الذي يتم فيه التأسيس لنظام جديد يتطلب حنكة سياسية يفتقدها حكام تونس الجدد من الإسلاميين وأتباعهم من دعاة العلمانية من الحزبين المشاركين في الحكم. وتتطلب الحنكة السياسية اعتبار الإتحاد العام التونسي للشغل شريكا فاعلا في بناء البلاد قولا وفعلا. لا شيطنته وتحريض الأنصار للإعتداء على مقراته ومناضليه وبث خطاب تحريضي بشأنه يصنفه في خانة الفلول وأعداء الثورة وفي عداد المنقلبين على الشرعية التي يمثلها المجلس التأسيسي صاحب السلطة الأصلية المفوضة من الشعب.
فالإتحاد ورغم زلاته وهناته في بعض المراحل التاريخية التي عرفتها تونس كان و مازال الخيمة التي يلجأ إليها المستضعفون من التونسيين للإحتماء من تعنت وجبروت الحكام. وكان المنقذ للبلاد بكل ما للكلمة من معنى في كثير من المحطات, فقد تحمل عبء النضال ضد الإستعمار الفرنسي وملأـ الفراغ حين تم اعتقال الزعماء الوطنيين من الدستوريين. وسارع إلى جانب جهات أخرى إلى المساهمة في إدارة شؤون البلاد خلال الفترة التي تلت هروب بن علي لتجنيب البلاد السقوط في مستنقع الفوضى والعنف. ثم هاهو يبادر اليوم لإطلاق حوار وطني يبحث التوافق بين الفرقاء السياسيين حول إدارة المرحلة القادمة بعد أن عجز المجلس التأسيسي على التفرغ من كتابة الدستور في الموعد المحدد وماطل الفريق الحاكم في تحديد خارطة طريق للمواعيد السياسية القادمة. لكن مبادرته وعوض الترحيب بها خاصة وقد تم إكساؤها بالصبغة الوطنية قوبلت للأسف بمقاطعة من قبل حركة النهضة ورديفها الذي يدور في فلكها حزب المؤتمر من أجل الجمهورية.
فالإتحاد العام التونسي للشغل هو الرقم الصعب في المعادلة التونسية الذي لا يمكن تجاوزه في أية توافقات قد تحصل. فبيده عديد الأوراق ومفاتيح الحلول لأهم المشاكل التي قد تعترض رجل الدولة في تونس. وسياسة كسر العظم التي ينتهجها البعض في التعامل معه هي باختصار انتحار سياسي عواقبه وخيمة. والتاريخ الذي هو بالأساس دروس وعبر للسياسي المحنك يثبت هذه الحقيقة التي يتغافل عنها بعض المكابرين ويوهمون أنفسهم بخلافها. والوقت لازال مبكرا لتدارك الأخطاء فهل من مجيب يا حكام تونس الجدد؟