مثلت استقالة رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي من منصبه، حدثا بالغ الأهمية يشهده الشرق الأوسط في هذا الظرف الحساس الذي تشتعل فيه الجبهات في أكثر من بؤرة على امتداد المنطقة. ولا يخفى على عاقل أن ما يحصل في سوريا يؤثر في لبنان وفي توازناته ومعادلاته السياسية نظرا للترابط الوثيق بين البلدين في أكثر من مجال.
كما أن أرض لبنان كانت باستمرار ساحة لصراعات الآخرين سواء كانوا دوليين أو إقليميين. فما يحصل في المنطقة يؤثر في بلد الأرز سلبا أو إيجابا نظرا لارتهان أغلب ساسة هذا البلد الطائفيين في عمومهم إلى الخارج، وارتباط زعاماته بجهات تغلب مصالحها بالدرجة الأولى على مصالح لبنان.
مناورة سياسية
لقد كان متوقعا أن تقدم حكومة ميقاتي استقالتها منذ فترة لأنها ولدت منذ البداية ميتة. حيث تم الإلتفاف على نتائج الإنتخابات النيابية الأخيرة من خلال إغراء أو إجبار وليد جنبلاط على تغيير ولاءاته، لتصبح جماعة الحريري أقلية داخل المجلس النيابي ويجبر الأخير على ترك رئاسة الحكومة وتقديم استقالته بعد أن سحبت منها الثقة من قبل المجلس النيابي.
لقد كانت مناورة سياسية أثبت من جهة دهاء فريق 8 مارس آذار وعلى رأسه حزب الله، ومحدودية قدرات الحريري الإبن على إدارة الأزمات، حيث عجز على الحفاظ على تماسك إئتلافه الحاكم (رغم أن البعض يعفيه من المسؤولية باعتبار أن حزب الله استخدم السلاح لإجبار جماعة وليد جنبلاط على تغيير الولاء والإصطفاف مع الفريق المقابل).
كما أثبتت هذه المناورة يومها تغير موازين القوى في المنطقة بعد انتكاسة المشروع الأمريكي في العراق، وهيمنة الإيرانيين على بلاد الرافدين، مع ما يعنيه ذلك من مزيد إحكام السوريين لقبضتهم على لبنان في ذلك الوقت، بعد أن quot;تراخت هذه القبضةquot; لمدة زمنية محدودة على إثر إجبار القوات السورية على الإنسحاب من لبنان، بعيد اغتيال رفيق الحريري في ذروة مجد المحافظين الجدد في واشنطن. وقد فسح هذا quot;الغيابquot; السوري المحدود يومها هيمنة لقوى 14 مارس آذار على المشهد السياسي في بلد الأرز.
نجيب ميقاتي
وجاء فريق 8 مارس آذار بنجيب ميقاتي لخلافة الحريري الإبن باعتباره ينتمي إلى تيار وسطي رغم أنه تحالف مع تيار المستقبل في مسقط رأسه بمدينة طرابلس في شمال لبنان خلال الإنتخابات. وكان حزب الله يومها مضطرا للقبول لميقاتي بما أن الزعامات السنية الموالية لسوريا ولحزب الله على غرار عمر كرامي أو الوسطية المعتدلة على غرار سليم الحص قد تقدمت في السن ولم تعد قادرة على إدارة شؤون البلاد.
كما أن هذه الزعامات ليس لديها امتداد جماهيري في الشارع السني الذي هيمن عليه تيار المستقبل. وبالتالي فإن ميقاتي مثلا حلا وسطا يومها بإمكانه تحقيق حد أدنى من التوافق، وهو تعبير عن الحالة السائدة في المنطقة في ذلك الوقت، فلا المشروع الأمريكي السعودي قد تمكن من السيطرة على مفاصل الشرق الأوسط ولا محور إيران سوريا حزب الله استتبت له الأمور.
لكن ما يشار إليه أن ميقاتي خسر الكثير من شعبيته لدى الشارع السني وخصوصا في مسقط رأسه في طرابلس التي يطغى عليها لون تيار المستقبل، وبات عرضة لانتقادات شديدة وشنت عليه حملات قاسية بسبب قبوله الإنخراط في quot;المشروع السوريquot; على حد تعبير منتقديه. وكان متوقعا أن يستقيل في أية لحظة نتيجة هذه الضغوط من جهة ونتيجة أيضا لتغير موازين القوى بما أن النظام السوري مصاب بـquot;الوهنquot; في الوقت الحاضر وتلهيه أوضاعه الداخلية على التدخل بقوة في الشأن اللبناني.
ذرائع
لذلك يرى عديد المراقبين أن الأسباب التي قدمها نجيب ميقاتي لتبرير استقالته، ومنها رفض فريق حزب الله أمل التيار العوني وحلفاؤهم التمديد في مدة عمل اللواء أشرف ريفي (المقرب من تيار المستقبل) رغم بلوغه سن التقاعد وكذلك التأخير في سن القانون المتعلق باللجنة المشرفة على الإنتخابات، ماهي إلا ذرائع تحجج بها ميقاتي لتقديم استقالة جاهزة منذ مدة. وقد حتم هذه الإستقالة تغير موازين القوى من جهة، والضغوط الداخلية (الشارع السني) والخارجية (السعودية، والولايات المتحدة) التي لم يعد الرجل قادرا على تحملها.
كما اعتبرت تحليلات أن ما أقدم عليه ميقاتي (الإستقالة) هو تصحيح لوضع خاطئ باعتبار أن قبوله المشاركة في حكومة (وإن كان رئيسها سنيا) يغيب فيها التمثيل الحقيقي للسنة في بلد طائفي بامتياز، يعتبر خطأ لا يغتفر يؤدي بهذه الحكومة إلى الفشل الحتمي باعتبارها تغيب مكونا رئيسيا من مكونات بلد الأرز.
ويتساءل أصحاب هذا الرأي ماذا كان سيحصل لو شكل الحريري حكومة لا يمثل فيها لا حزب الله ولا أمل وإنما يتم جلب شيعة موالين لتيار المستقبل على غرار عقاب صقر وموالين لعلي الأمين مفتي صور وجبل عامل المعروف بمعارضته لسياسات حزب الله؟ أو ماذا كان سيحصل لو quot;نصبquot; الحريري حين كان صاحب الأغلبية النيابية رئيسا للمجلس النيابي شيعيا مقربا منه غير نبيه بري زعيم حركة أمل؟ هل كان الشيعة سيقبلون بهذا الوضع؟
سيناريوهات
لقد سارع تيار المستقبل صاحب الشعبية الكبيرة في الشارع السني إلى مباركة استقالة ميقاتي واعتبرها خطوة في الإتجاه الصحيح وأعرب عن استعداده للجلوس مجددا إلى طاولة المفاوضات من أجل تشكيل حكومة وحدة وطنية خاصة وأن تيار الحريري كان يشترط استقالة الحكومة للعودة إلى الحوار. وقد اعتبر عديد المحللين تصريحات قيادات quot;المستقبلquot; بمثابة الرسالة إلى الطرف المقابل مفادها عدم النية في التصعيد خاصة وأن ما يعيشه الشمال من معارك بين موالين لبنانيين للنظام السوري ومعارضين له يهدد بإشعال بلد الأرز ودخوله في أتون حرب أهلية.
ويبدو من خلال التسريبات أن تيار المستقبل الذي تحالف مجددا مع جنبلاط قد يرشح إما بهية الحريري أو محمد الصفدي لرئاسة الحكومة باعتبار الرفض القطعي لقوى 8 مارس آذار لرئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة. وباعتبار عدم رغبة سعد الحريري في تحمل المسؤولية في الوقت الراهن نتيجة لمعطيات داخلية وخارجية وقد يعود مجددا بعد الإنتخابات القادمة.
ويتساءل عديد المحللين ماذا لو رفض حزب الله أن تترأس الحكومة اللبنانية شخصية من قوى 14 مارس آذار؟ حينها لا يبدو أن هناك مرشحا توافقيا يمكن أن يلتقي حوله الجميع. فالزعامات السنية التي يحق لها دون غيرها ترؤس الحكومة وفقا للدستور، إما موالية في أغلبها لفريق 14 مارس آذار ولتيار المستقبل أو أقلية مع الفريق المقابل تلتقي مع حزب الله حول ضرورة المقاومة. أما الوسطيون وهم قلة أيضا فسيكون مصير أية حكومة يشكلها أحدهم هو الفشل على غرار حكومة ميقاتي.
لذلك، وبحسب عديد التحليلات، فلا مفر لإنقاذ البلاد من ترؤس الحكومة من قبل شخصية من تيار المستقبل أو من قبل شخصية موالية له، quot;يرضى عنهاquot; ويزكيها باعتبار أن هذا التيار يمثل السنة تمثيلا حقيقيا. و فيما عدا ذلك فإن مصير حكومة ميقاتي سيكون ذات مصير أية حكومة لا تمثل فيها طائفة ما، تمثيلا حقيقيا في بلد quot;الديمقراطية التوافقيةquot;.
التعليقات