بعد فضيحة عيد الإستقلال المتمثلة في خلو شوارع البلاد من مظاهر الزينة احتفاء بهذه المناسبة الوطنية المجيدة، جاءت قصة عدم إرسال الدولة التونسية لصورة الزعيم الحبيب بورقيبة ليقع تضمينها مع صور الزعماء الأفارقة المؤسسين لمنظمتهم الجامعة في أديس أبابا لتؤكد الشكوك التي حامت حول عزم حكام تونس الجدد طمس جزء مهم من الذاكرة الوطنية يتعلق بالإرث البورقيبي. في تعارض تام مع سلوك من يدعون أنه ملهمهم وأنهم يسيرون على خطاه، أي رجب طيب أردوغان الذي لا يفوت مناسبة دون الإشادة بمنجزات باني تركيا الحديثة ومركز دعائمها الصلبة لتصبح واحدة من أعتى القوى الإقليمية، مصطفى كمال أتاتورك.

والحقيقة أن الفريق الحاكم الجديد في تونس، شديد التأكيد من خلال تصريحات أغلب زعاماته على أن الفساد والإستبداد يمتد إلى أكثر من خمسين سنة خلت، ولا يقتصر فقط على فترة حكم بن علي، ما يفهم منه أن بورقيبة وفريقه الذي لازمه لعقود وشاركه في بناء دولة الإستقلال (حسب رأي أبناء النهضة ومن تزلف إليهم سواء من أبناء الأحزاب الكرتونية المتلهفة على فتات الحكم أو ممن انقلبوا على عقبيهم ابتغاء مرضاة الحاكم سواء كان بن علي أو الغنوشي)، ليسوا سوى عصابة من الفاسدين والمفسدين الذين أهلكوا الحرث والنسل، فرحم الله هذا الشعب بعد عقود عجاف بصعود حركة النهضة إلى سدة الحكم لتلعب دور مهدي الأمة المنقذ من الشرك والضلالة.
مغالطة
وفي هذا الرأي مغالطة كبرى للرأي العام خصوصا من الفئة الشبابية التي تجهل في عمومها تاريخ الحركتين الوطنية والإصلاحية للبلاد التونسية، وكذا المخاطر الجمة التي حفت بمرحلة بناء دولة الإستقلال، والظروف الإقليمية والدولية الصعبة التي ميزت تلك الحقبة، والتي quot;تجعل الولدان شيباquot; ولا يصمد أمام رياحها العاتية إلا الكبار من أمثال الزعماء الحبيب بورقيبة وفرحات حشاد وصالح بن يوسف والمنجي سليم وعلي البلهوان والباهي الأدغم وغيرهم من بناة هذا الوطن وآبائه المؤسسين، الذين لا يمكن إنكار أخطاء وزلات بعضهم باعتبارهم بشرا خطائين، وعلى من يرغب في محاسبتهم أن يستذكر ما روي عن المسيح بشأن المرأة الزانية التي طلب منه الفريسيون إدانتها فقال لهم: quot;من منكم بلاخطيئة فليرجمها بحجرquot; ، ولا يتصور عاقل أن حكام تونس الجدد بلا خطيئة.
ويحمل كثير من المحسوبين علىquot; فريق الموالاةquot; الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة المسؤولية ليس فقط على التجاوزات الحاصلة خلال سنوات حكمه، وإنما أيضا على تربع الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي على عرش قرطاج ويعتبرون الأخير امتدادا لبورقيبة وجزء من إرثه. وفي ذلك تجن على الزعيم الراحل لا مبرر له ومحاولة لشيطنته رغم أنه فارق الحياة منذ أكثر من عقد، ومن المفروض أن ما في قلوب النهضويين، quot;المسلمين المتسامحينquot;، من غل على بورقيبة قد ولى واندثر وبات مادة للتدبر وأخذ العبر. وعلى كل حال ليس بورقيبة وحده من مد يده لبن علي، فالقاصي والداني على علم بما جاهر به راشد الغنوشي بعد انقلاب السابع من نوفمبر1987 وصولا إلى انتخابات 1989، بخصوص زين العابدين بن علي. فهل يعلم بورقيبة الغيب وما تخفي الأنفس في الصدور؟ أم أنه مباح لزعيم النهضة أن يخطئ التقييم، ويحرم على غيره؟
السلفيون أيضا
والحقيقة أن رديف حركة النهضة، أي التيار السلفي، يشارك حكام تونس الجدد في آرائهم ومواقفهم بشأن الزعيم الراحل. فتكفير بورقيبة من قبل هؤلاء أمر بديهي وهم الذين كفر أحد المنتسبين إليهم القائد القرطاجي التاريخي حنبعل (هنيبعل كما يلفظه المشارقة) على الملإ وفي قناة تلفزيونية فضائية بيقين جازم يفتقر إلى الأدلة القاطعة، بأن الرجل لم يكن من الموحدين رغم إطالته للحية. وهم الذين اعتبروا الراية الوطنية التونسية نتيجة من نتائج quot;سايكس بيكوquot; التي لفظها أحدهم على ذات القناة وبذات البرنامج quot;سايس بيكوquot; دون أن تكون لمقدم البرنامج لا الثقافة ولا العلم والدراية لإصلاحه وتقويم اعوجاجه. وقد خفي على السلفي كما مقدم البرنامج الشهير ممن انقلبوا على أعقابهم بعد الثورة التونسية، وباتوا ثوارا، بأن الراية التونسية قد اعتمدت قبل قرابة القرن من الزمان من اتفاقية سايكس بيكو التي اقتسمت بموجبها القوى الإستعمارية مشرق quot;العالم العربيquot; وليس مغربه.
وفي منبر حواري آخر بقناة تحظى بمتابعة جماهيرية منقطعة النظير في تونس، اعتبر الناطق الرسمي بإسم أنصار الشريعة السلفية أن على الشعب التونسي أن يطالب بالإطلاع على وثيقة الإستقلال التي أمضاها بورقيبة مع فرنسا والتي تم إخفاؤها حتى لا يطلع التونسيون على ما جاء فيها، عوض الإهتمام بما يحصل في جبل الشعانبي (حيث يقاتل الجيش التونسي جماعات سلفية تكفيرية). ولم يجد هذا المنتمي إلى تيار ينخر الكثير من أبنائه الجهل بأمور الدنيا والدين، من يصحح له المعلومة التي بثها خياله الخصب، لا مقدم البرنامج ولا أحد كبار الإعلاميين المتعاملين مع القناة. فاتفاقية الإستقلال أمضاها الوزير الأكبر الطاهر بن عمار زمن الملك محمد الأمين باي وليس الحبيب بورقيبة الذي لا صفة رسمية له في الدولة التونسية في ذلك الوقت. كما أن هذه الوثيقة موجودة وبإمكان الباحثين الإطلاع عليها في الأرشيف الوطني التونسي. فهل كان مطلوبا من بورقيبة أن يوزعها لاحقا على صناديق بريد التونسيين حتى لا يتهمه أنصار الشريعة بأنه أخفاها على الشعب التونسي؟
حقائق الجغرافيا والتاريخ
إن بورقيبة ومن ورائه مكاسب الدولة الوطنية بصدد التعرض لهجمة شرسة من حكام تونس الجدد ومن والاهم. وبث الأكاذيب والدعايات التي لا أساس لها، والتي يصدقها البسطاء والعامة من المنتمين أو المتعاطفين مع النهضة بات خبزا يوميا يتم تداوله في بعض وسائل الإعلام بمختلف مكوناتها وفي مواقع التواصل الإجتماعي وخصوصا الفايسبوك الذي تحول بفعل هؤلاء إلى مستنقع لسب وشتم خلق الله على اختلاف مقاماتهم لمجرد معارضتهم لفكر حركة النهضة الإخوانية أو لسياساتها.
والقوانين وحدها تعتبر غير رادعة لهؤلاء باعتبار أن النيابة العمومية لم تحرك ساكنا بشأن الهجمات التي يتعرض لها رموز الوطن، والتي تهدف إلى طمس تاريخ البلاد وإرثها الحضاري وإعادة تشكيلها على نمط هجين لا يمت للواقع التونسي بصلة وإنما يستمد جذوره من أرض غير أرض قرطاج العظيمة التي سادت المتوسط لقرون قبل ميلاد المسيح. فالهوية العربية الإسلامية للبلاد التونسية هي قاسمنا المشترك مع هؤلاء الإخوان والسلفيين، لكننا أيضا أفارقة ومتوسطيون ساهمنا لقرون في صنع التاريخ في هذا الحوض الذي يتوسط قارات العالم القديمة الثلاث وهو ما ينكرونه علينا ويرفضون الإعتراف به في الدستور رغم أنه واقع، والجغرافيا كما التاريخ يؤكدانه.