من غرائب هذا الزمن أن حكام تونس الجدد، ممن هللوا وطبلوا لسقوط مبارك، وانتقدوه بشدة حين ردد مقولته الشهيرة بأن مصر ليست تونس، بل وسخروا منه، وانتقدوا سيف الإسلام القذافي حين لوح بسبابته المبتورة، من قبل حاملي راية الإسلام، بأن ليبيا ليست مصر أو تونس، وسخروا منه أيضا وتوعدوه ووالده وأفراد أسرته بالويل والثبور وملاقاة ذات مصير quot;المخلوعينquot;، على حد تعبير راشد الغنوشي. يصمون آذاننا اليوم بمقولة أن مصر مختلفة تمام الإختلاف عن تونس، وبأن ما شهدته القاهرة لا يمكن أن يتكرر على أرض الخضراء، مهد الثورات التي استبد حكامها الجدد بسلطة القرار وغرتهم نتائج استحقاق انتخابي ولى وانقضى ومحيت آثاره بمفعول الزمن بعد تجاوز أجل السنة الذي كان مقررا لإتمام الدستور.

إن من يستمع إلى تحليلات جهابذة سياستنا الجدد من جماعة الموالاة، يذهب في اعتقاده أن مصر وتونس لا ينتميان إلى ذات المجرة، وأن بينهما quot;فرسخ لا يلتقيانquot;، وكأن علماء الزيتونة الميامين لم تكن لهم مساهمة في تأسيس الأزهر الشريف، أو كأن الفاطميين لم ينطلقوا من أرض تونس لتأسيس قاهرة المعز، بل أن الفتوح باتجاه بلاد المغرب انطلقت زمن الأمويين من فسطاط مصر، وتأثر مصلحونا في تونس أيما تأثر بمحمد عبده ورفاعة رافع الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني. كما أن البعض يؤكد على أن من بين الأسباب التي دفعت ببورقيبة إلى إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية هو تأثره بثورة الضباط الأحرار في مصر وإطاحتهم بالملك فاروق. وليس من باب الصدفة أن تثور مصر على مبارك مباشرة بعد إزاحة بن علي عن عرش قرطاج.
فكلانا ينتمي إلى ذات الفضاء العربي الإسلامي الإفريقي المتوسطي، وكلانا شهد تقريبا ذات الحقب التاريخية، وكلانا لديه نخبة متعلمة مثقفة ناضجة واعية تبحث عن حياة أفضل تليق بما وصلت إليه من رقي معرفي. كما أن كلانا يعاني من توزيع غير عادل للثروات جعل شرائح إجتماعية واسعة تعاني من التهميش واللامبالاة من الحكام. وكلانا أيضا ابتلي بحكام جدد رغبوا في القضاء التدريجي على مكتسبات الدولة الوطنية واستبدوا بالقرار السياسي غير مبالين بطبيعة المرحلة الإنتقالية التي تقتضي التوافق لا الإستئثار بالسلطة وصياغة الدساتير والقوانين على المقاس بما في ذلك القوانين الإقصائية.
ولعل الحديث عن أن الحكم في تونس تتقاسمه أحزاب علمانية مع حركة النهضة، وأن الحركة لا تحتكر سلطة القرار في البلاد بمفردها، هو قول يجانب الصواب. فالقاصي والداني يدرك بأن شركاء النهضة لا سلطة لهم، وبأن شريكتهم الكبرى في الحكم تغولت عليهم وجردتهم من كل شيء. وتبقى حادثة تسليم البغدادي المحمودي رئيس وزراء القذافي إلى السلطات الليبية والتي تمت دون علم من رئيس الجمهورية خير دليل على هذا الطرح، ناهيك عن الإنحياز الفاضح لرئيس المجلس الوطني التأسيسي السيد مصطفى بن جعفر لنواب النهضة على حساب نواب المعارضة، وعدم قدرته على تغيير المعطيات بشأن ما يسمى quot;قانون تحصين الثورةquot; رغم معارضته له، والأمثلة عديدة في هذا المجال .
فالنهضة وعلى غرار حركة الإخوان المسلمين في مصر تحتكر الحكم بمفردها وما شركاؤها إلا ديكورات لتلميع الصورة في الخارج ليبدو الحكم تشاركيا في تونس أمام الرأي العام الدولي الذي يهم حكامنا الجدد في المقام الأول. وتتجلى هذه العنجهية في تصريحات أكثر من مسؤول نهضوي في الآونة الأخيرة سواء فيما يتعلق بالدستور أو بالإعلام أو بغيره. فالغرور بلغ ذروته، واعتقد القوم أن كراسيهم التصقت بأجسادهم حتى استحال فصلهم عنها. وهو في الحقيقة أمر متوقع خاصة بعد أن تم وضع اليد على القضاء، من خلال خضوع النيابة العمومية لسلطة وزير العدل وتطويع جانب منه، لخدمة الأجندات السياسية وتسليطه على الخصوم السياسيين وأصحاب الأقلام الحرة.
لقد أصابت الحيرة جانبا كبيرا من التونسيين وتساءل أكثر من طرف، هل نحن أمام مرحلة انتقالية تتعلق بعملية بناء ديمقراطي، أم أننا إزاء حكم مؤبد يتم التأسيس له بالتدريج خاصة وأن الموعد النهائي للإنتخابات لم يحدد بعد، والدستور بالصيغة التي أطل بها علينا يفتقر إلى التوافق، وبحاجة إلى أشهر طويلة من النقاش حتى نصل إلى صيغة ترضي الجميع، هذا بالطبع إذا كانت النهضة راغبة في التوافق لأن التصريحات الأخيرة للسيد الحبيب خذر، مقرر عام الدستور الذي ينتمي إلى حركة النهضة، لا تدل على ذلك ونتمنى أن تكون مجرد تعبير عن رأي شخصي صدح به مقرر دستورنا المحترم في لحظة غضب.
كما أن القول الذي يردده أنصار الموالاة بأن الجيش التونسي، بخلاف نظيره المصري، لا يتدخل في الشأن السياسي، هو بدوره يجانب الصواب. فمن تراه تدخل في الشأن السياسي أياما قليلة قبل هروب بن علي وبعده؟ أليس جيشنا الوطني من رفض إطلاق النار على شعبه في القصرين وفي غيرها من المدن؟ أليس رفض طاعة أوامر الحاكم اصطفافا سياسيا وانتصارا للشعب على سياسييه مثلما حصل في مصر؟ ثم من قاد البلاد من وراء الكواليس مع حكومتي محمد الغنوشي وقائد السبسي إلى حين تسليمها لسلطة منتخبة؟ أليس الجيش الوطني؟ ومن وراء التمديد في حالة الطوارئ في البلاد؟ أليس الجيش أيضا؟ إن ما فعله الجيش المصري مع محمد مرسي، وباختصار، هو ذات سلوك الجيش التونسي مع بن علي شاء من شاء وأبى من أبى.
إن من يرددون مقولة أن تونس ليست مصر، هم إما بصدد طمأنة أنفسهم نظرا لحالة الذعر والعلع التي أصابتهم بعد سقوط مرسي، أو أنهم بصدد طمأنة قواعدهم التي أصيبت بالحيرة والذهول وهي بحاجة لمن يعيد لها الأمل. أو أنهم وهذا المرجح يعيشون خارج هذه البلاد ولا يدركون حقائق الأمور، لأن السلطة التي أعمت بصر من سبقهم إلى حكم هذه البلاد قد تعمي أبصارهم. فخطاب مرسي قبل الأخير والذي تحدث فيه بإطناب عن quot;الشرعيةquot;، يقيم الدليل على أن القوم غير واعين بالحقائق، وغير شاعرين بتاتا بمعاناة الشعوب التي أضناها شظف العيش دون أن يتمكن من سوقوا أنفسهم على أنهم منقذين من تحقيق أهداف الثورات.
ولعل الإختلاف الوحيد بين مصر و تونس يتمثل في أن الرئيس المطاح به محمد مرسي ومجلس شعبه يمتلكون بالفعل الشرعية، في حين أن حكام تونس يفتقدون إليها بعد مضي سنة على انتخاب المجلس الوطني التأسيسي وبعد حادثة اغتيال شكري بلعيد. وقد قبلت بهم الجموع التي خرجت في جنازة الشهيد على مضض ليواصلوا حفاظا على الأمن والإستقرار في البلاد وتغليبا للمصلحة الوطنية بعد المناورة السياسية للسيد حمادي الجبالي والمتعلقة بحكومة التكنوقراط والتي تم الإلتفاف عليها بإعادة إنتاج حكومة بذات الوجوه فعرفت ذات الفشل.
إننا لا نرغب في أن يلقى حكامنا الجدد ذات مصير إخوان مصر، لا نريد أن يطاح بهم عسكريا وأن يوضعوا في الإقامة الجبرية ويهانوا لأنهم أبناؤنا وأقاربنا وذوونا ولأننا شركاء وإياهم في هذا الوطن. لكننا نتوسلهم أن يعوا الدرس جيدا وينزلوا من برجهم العاجي ويتركوا الغرور والصلف جانبا، ويؤمنوا وإيانا بأن الأمر يتعلق بمرحلة انتقالية تقتضي توافق الجميع. وعليهم أن يبرزوا للرأي العام الوطني حسن نواياهم من خلال الحل الفوري لرابطات حماية الثورة وقبر قانونهم الإقصائي المسمى quot;تحصين الثورةquot; والبحث عن التوافق حول الدستور وعدم التعصب للرأي ورفض ما يخالفه، وعليهم أن يرفعوا أيديهم عن القضاء ويكفوا عن التعيينات على أساس الولاء. كما نطالبهم بخارطة طريق بشأن المواعيد السياسية القادمة ومن ذلك الإنتخابات. حينها فقط لا نتجنب فقط السيناريو المصري وإنما الجزائري والفلسطيني وغيره، وفي ما عدا ذلك فتونس لن تكون إلا مصر.