درج الرأي العام في تونس على تصنيف النهضويين إلى حمائم وصقور وتم تقسيمهم إلى معسكرين، واحد متشدد يضم أسماء على غرار رئيس الحركة راشد الغنوشي والحبيب اللوز وشورو وزيتون وعامر العريض وغيرهم، وآخر معتدل يضم حمادي الجبالي وسمير ديلو وطبعا الشيخ الوقور عبد الفتاح مورو. وذهب البعض إلى حد وصف المعسكر الأول بـquot;النجديينquot; - نسبة إلى نجد التي نشأ فيها الفكر السلفي الوهابي والتي تنحدر منها أغلب قبائل الجنوب التونسي من الهلاليين والسليميين- ووصف المعسكر الثاني بـquot;الأندلسيينquot; أي أصحاب الفكر التقدمي المنفتح الذي عرف به سكان حواضر الأندلس المسلمة منذ قرون، أي قبل سقوط غرناطة آخر معاقل الإسلام في شبه الجزيرة الإيبيرية، خاصة وأن بعض من ينعتون بـquot;الحمائمquot; ينسبهم البعض إلى الموريسكيين القادمين من تلك البلاد.

ولعل هذا التقسيم الذي درج عليه البعض يجانب الصواب إلى حد كبير، وذلك بالنظر إلى مواقف أبناء الحركة الحاكمة في تونس من عديد الأحداث والقضايا الوطنية، التي طبع فيها التشدد مواقف من يطلق عليهم البعض تسمية حمائم، فإذا بنا أمام صقور جارحة، وحشيتها لا تبقي ولا تذر. فلا تميز وأنت تسمع التصريحات بين هذا وذاك، وتعتقد اعتقادا يقينيا راسخا بأنك إزاء أشخاص نهلوا من ذات الفكر وتشبعوا به، وبات يقينا راسخا لديهم يصعب، بل يستحيل اقناعهم بخلافه. فلا خلاف ولا اختلاف بين هذا وذاك فجميعهم صقور مع استثناء وحيد.
حمامة خارج السرب
ويبقى الشيخ عبد الفتاح مورو quot;الحمامةquot; المغردة خارج السرب والإستثناء مقارنة بالآخرين. ناهيك وأنه أثبت قولا على غرار الآخرين، وفعلا أيضا -بخلاف الآخرين- أنه ضد العنف. فاعتزل الحركة احتجاجا على حرق الأبرياء أحياء بعد توثيقهم في حادثة باب سويقة الشهيرة التي شهدتها العاصمة التونسية مطلع تسعينيات القرن الماضي. ودفع الثمن غاليا نتيجة لذلك فإذا به منبوذ من صقور حركة النهضة الذين لم يغفروا له موقفه quot;الرجوليquot; رغم مرور أكثر من عقدين من الزمان على تلك الحادثة الأليمة التي قضت المضاجع واعتقدنا في حينها، من منطلق نظرية المؤامرة، أن الأمر يتعلق بإحدى فبركات بن علي فتبين لاحقا أن الأمر بخلاف ذلك.
وواصل الشيخ مورو في ذات المنهج المتميز عن صقور النهضة، فصدح بكثير من المواقف التي أغضبت منه القواعد كما القيادة، وجعلته يعاني الأمرين من أبناء حركة هو من أهم مؤسسيها أو لعله أهمهم على الإطلاق. ولعل حادثة قصر الرياضة بالمنزه التي منع فيها quot;رجل تونس الأصيلquot; من إلقاء كلمته خير دليل على التنافر بين quot;الخط الأردوغانيquot; الذي يمثله مورو وخط quot;بشير السودانquot; الذي يمثله صقور النهضة سواء في القواعد أو على مستوى القيادة. فالحديث عن حمائم داخل حركة النهضة وإذا استثنينا الشيخ مورو أمر لا يستقيم، إذ لا وجود لهذا الجناح على الإطلاق.
ديلو والجبالي
فحتى الحقوقي الوزير سمير ديلو والذي يصنفه البعض في خانة الحمائم فإنه لا يبدو كذلك. هو محاور لبق ما في ذلك شك، اكتسب قدرة على الخطابة ومقارعة الحجة بالحجة من خلال سنوات نضاله ونشاطه الجمعياتي في مجال حقوق الإنسان، ومن خلال علاقاته المتميزة مع كبرى المنظمات في العالم، و أيضا من خلال الدورات التكوينية التي خضع لها، ما في ذلك شك أيضا. و من المسلمات أن الرجل أقل حدة من الآخرين في رده على انتقادات معارضي حركته. لكن المناضل الحقوقي السابق يتبنى ذات أفكار الصقور ويستقتل في الدفاع عنها بـquot;شراسة ناعمةquot; يفتقدها أمثال الحبيب اللوز وعامر العريض ولطفي زيتون وغيرهم، ولم تعرف عنه معارضته الصريحة لمواقف رئيس حركته من أهم القضايا المثيرة للجدل، بخلاف الشيخ مورو الذي لا يتردد في انتقاد راشد الغنوشي كلما كان ذلك ضروريا.
أما السيد حمادي الجبالي رئيس الحكومة السابق فلديه من المواقف والأفعال ما قد يجعل المرء يصنفه في خانة الحمائم، ومن ذلك مبادرته إلى تشكيل حكومة كفاءات وطنية بعيد اغتيال الشهيد شكري بلعيد، في تمايز تام مع ما ذهب إليه صقور حركته. لكن لديه أيضا وفي المقابل من التصريحات وquot;السلوكيات السياسيةquot; ما يجعل الحليم حيرانا بشأن تصنيف هذا الرجل، ومن ذلك إقصاؤه لتيار العريضة الشعبية الفائز بثاني أكبر عدد من المقاعد في انتخابات 23 أكتوبر 2011 في تماه مع شيخه الرافض للحوار مع الهاشمي الحامدي ومع كل من انتقد خطه السياسي وحاد عنه ورغب في تصحيح المسار داخل حركة النهضة، على غرار من ينعتون في تونس بـquot;اليسار الإسلاميquot; من أمثال خالد شوكات وعبد الوهاب الهاني وصلاح الجورشي وغيرهم.
وهم
إن الحديث عن وجود quot;معسكرquot; للحمائم داخل حركة النهضة هو وهم بكل ما للكلمة من معنى. ذلك أن وجود تيار معتدل داخل حزب سياسي يقتضي توفر عدد معتبر من الأشخاص، لا فردا معزولا على غرار الشيخ مورو. كما يقتضي أيضا تبني هذه المجموعة لأفكار مخالفة لتلك التي يتبناها من ينعتون بالصقور، وهذا أيضا غير متوفر في حركة النهضة إذا استثنينا الشيخ مورو. كما يقتضي أيضا أن يكون لهذه الجماعة، التي يفترض اختلافها مع التيار المتشدد، القدرة على التأثير في القرار أو الإنسحاب من الحركة إذا اقتضى الأمر ذلك، وهذا أيضا غير متوفر وعبر عنه الأستاذ سمير ديلو صراحة حين صرح بما معناه أن حركة النهضة لا تتصدع وواهم من يراهن على تصدع داخل حركة النهضة، وفي كلامه الكثير من الصحة باعتباره quot;سيد العارفينquot; بخبايا حركته. فالكل في مونبليزير (المقر المركزي للحركة) داخل ثكنة عسكرية يأتمر بأوامر قائدها ولا يمكنه بأي حال من الأحوال عصيان الشيخ أو التمرد على قراراته حتى وإن كانت مساندة لمن تحوم حولهم شبهة العنف والقتل العمد مع سابقية الإضمار على غرار رابطات حماية الثورة.
وحقيقة الحال أن حمائم النهضة هم ذلك التيار الذي انسلخ مبكرا عن حركة الإتجاه الإسلامي والذي أطلقت عليه تسمية quot;اليسار الإسلاميquot; والذي كان من المفروض نعته بـquot;التيار الإسلامي الليبراليquot;. فهذه المجموعة أغلبها من مثقفي الحركة ممن حملوا فكرا نقديا ورغبوا في مراجعات لم ينصت إليها quot;الشيخ المبجلquot; quot;صاحب المقام العاليquot; راشد الغنوشي والصقور المحيطون به، وسينصفهم التاريخ يوما ما في ذلك شك. فالبعض يشبههم بليبراليي الحزب الدستوري أمثال أحمد المستيري وحسيب بن عمار وراضية الحداد والباجي قائد السبسي وغيرهم ممن رغبوا في تصحيح مسار الحزب الحاكم يومها وتمردوا على بورقيبة رغبة في التعددية السياسية وإرساء الديمقراطية، وquot;فعلوا في حركة التاريخquot; من خلال تأسيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بمعية مناضلين يساريين وحركة الديمقراطيين الإشتراكيين والمعهد العربي لحقوق الإنسان، كما كان لبعضهم مساهمة فاعلة في عملية البناء الديمقراطي بعد الثورة بالإضافة إلى مساهمتهم في تأسيس منابر للتعبير عن الرأي والفكر الحر. أما أغلب المنتمين إلى حركة النهضة اليوم، والذين انضم إليهم بعد الثورة بعض المتزلفين إلى الحكام، والذين رضخوا وتحجرت أفكارهم وغاب لديهم الفكر النقدي حتى باتت نظريات الشيخ ونظرته للأمور من المسلمات، فلا يمكن تصنيفهم في خانة الحمائم لأنهم جميعا صقور إلا أنت يا مورو.