تكلمت قبل أيام مع نبيل - صديق عراقي يسكن في بغداد. شعرت أنه شارد الذهن ويحبس دموعه. فتمازحت معه قائلاً:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر أما للهوى نهي عليك ولا أمر
فضحك قائلا: يمعود لا هوى ولا بطيخ.
فسألته: بس ليش ضارب دالغة (شارد الذهن باللهجة العامية العراقية)
أجابني: أنت تعلم أن العراقيين ذاهبون للانتخابات في نهاية الشهر ليمارسوا حقهم الديمقراطي، لكنني حائر لمن أصوت؟ عندي صعوبة في اختيار المرشح المناسب لقيادة العراق من بين اكثر من مئة قائمة انتخابية تضم ائتلافات وكيانات سياسية كثيرة. ثم تابع قائلاً كمن يمتحنني: آني اعرف أنتَ هاجرتْ العراق قبل اكثر من أربعين سنة وما عندك شغل والانتخابات لكنك بعدك متّبَع لأخبار العراق، بدمك يجري مي دجلة، ألمنْ ترشح؟
قلت: هناك أسئلة يجب طرحها أولاً قبل الإجابة على سؤالك هذا، مثلاً:
bull;هل هذه انتخابات حقيقة أو مسخرة باسم الديمقراطية؟
bull;هل يجوز لشخص غير متعلم وليس له وعي سياسي أن ينتخب؟
bull;هل هناك أجندة عملية تطرح حلول لمشاكل المجتمع؟
bull;كيف يمكن القضاء على الإرهاب أيا كان مصدره؟
bull;متى سيتوقف نزيف الدم والقتل على الهوية؟
bull;كيف يمكن نشر ثقافة التسامح والتعايش؟
bull;هل هناك مكان للمثقفين والمفكرين والليبراليين في عراق اليوم؟
وأسئلة كثيرة أخرى.

لا أتوقع انك تستطيع الرد على كل الأسئلة لكن لكي لا تعتقد إنني أتهرب من الإجابة على سؤالك فاني ارشح حسقيل الرحوم لقيادة العراق.
فابتسم نبيل ابتسامة عريضة قائلاً: والله عرفت راح تعقدها. من حسقيل الرحوم؟ اني لم اسمع به من قبل ولا يظهر في أي من التكتلات السياسية التي تخوض الانتخابات. لمن ينتمي حسقيلك هذا؟
فأجبته: لم اكن أتوقع انك قد سمعت به من قبل. إن كنت تسأل هل هو مسلم أم من دين آخر؟ هل هو شيعي أم سني؟ هل هو عربي أم كردي؟ هل يؤمن بدولة القانون أو بالحوار أو الكرامة أو التجديد أو الوطنية أو........؟ ، (أسماء لبعض الكتل التي ستخوض الانتخابات)، فاني لا استطيع الإجابة لأنه لا يعرّف نفسه بالانتماء لأياً من المكونات العرقية أو الدينية أو المذهبية أو القبلية أو الأجندات السياسية الضيقة. حسقيل يصف نفسه ك quot;عراقي مخلص ورحومquot;
وهنا استوقفني نبيل قائلاّquot; حسقيل هذا، هل أجداده عراقيون؟
قلت: ماذا تقصد؟ حسقيل من أولئك الذين تمتد جذورهم لمئات السنين في ارض ما بين الرافدين. ترعرع على تربة سقتها مياه دجلة والفرات. لكن حسقيل يمثل كل من سكن أجداده العراق بغض النظر عن المدة، إن كانت منذ آلاف السنين أو عشراتها ممن يشعر بالانتماء جسدياً أو روحياً للعراق. حسقيل يمثل كل عراقي خدم ويخدم العراق بإخلاص وينتمي إلى ثقافة بناء الدولة ولا يمثل مصالح دولة أخرى. حسقيل يمثل كل عراقي لم يُلطّخ يداه بدم أبناء شعبه وكل عراقي لم يختلس ويسرق من أموال الدولة والشعب، هل تريد أن استمر....؟
هنا قاطعني نبيل: لا، وصلتني الرسالة، ولكن هل لدى حسقيل حزب لكي نستطيع أن ننتخبه؟
فأجبته: حسقيل من مؤسسي وقادة حزب الإخلاص لكن معظم قيادي وأعضاء هذا الحزب قد توفوا أو قتلوا أو آثروا الخروج من العراق أو في غيبوبة عميقة. وحسب معلوماتي لم ينضم لحزب الإخلاص أعضاء جدد لعشرات السنين ولكني متأكد أن هناك العديد من الذين يودون الانضمام إن سنحت لهم الفرصة.
سألني: هل من شعارات وأهداف لحزب الإخلاص؟
قلت: المشكلة كانت دائما في تطبيق الشعارات وليس رفعها، خاصة بعد الوصول للحكم. عديد من الأحزاب رفعت الشعارات الجذابة لكن هل نفذتها على ارض الواقع؟ هذا هو السؤال، لكن إن أصررت على معرفة بعض شعارات وأهداف هذا الحزب فهي:
bull;فصل الدين عن السياسة ومحو الطائفية من الخطاب السياسي
bull;توفير العدالة الاجتماعية والمساواة بين أبناء الشعب
bull;الاستقلال الذاتي للأكراد وضمان حقوق القوميات
bull;ضمان حرية العبادة والوصول للاماكن المقدسة لكل الأديان
bull;ضمان حقوق المرأة ومساواتها مع الرجل وضمان حقوق الطفل
bull;توفير الأمن والاستقرار لكل أبناء الشعب
bull;استغلال الثروات الطبيعية للمصلحة العامة
bull;بناء البنية التحتية وتوفير المياه الصالحة للشرب، والتصريف الصحي والكهرباء
bull;حماية أموال الدولة من السرقة والاختلاس
bull;الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية
bull;تبوء أصحاب الكفاءات للمناصب الحكومية
bull;القضاء على الرشوة والفساد
bull;إلغاء قانون إسقاط الجنسية واستعادة حقوق من أسقطت عنه/عنها

فسألني نبيل أين حسقيل كل هذه السنين وأين زملاؤه؟

فأجبت: هناك مئات الألوف في غيبوبة سببها اكل التمور المسمومة من نخيل نمت على تربة سقتها ولا تزال تسقيها دماء الأخوة. وهناك العديد ممن آثروا الخروج من العراق ولن يعودوا له. ثم اقتبست من التوراة من كتاب التكوين:
quot;وحدث أن كانا في الحقل أن قايين (قابيل في القرآن) قام على هابيل أخيه وقتله. فقال الرب لقايين أين هابيل أخوك فقال لا اعلم أحارس أنا لأخي فقال ماذا فعلت؟ صوت دم أخيك صارخ لي من الأرض فالآن أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاهها لتقبل دم أخيك من يدك.quot;

فقاطعني نبيل: لكن لم تقل لي، هل حسقيل الرحوم أيضا في غيبوبة؟
فأجبته: ماذا تعتقد؟
وهنا قفز نبيل من مقعده قائلاً: لم أدرك أن هناك مئات الآلاف من الذين ينتمون لحزب الإخلاص. لكن كيف نستطيع أن ننتخب من هم في غيبوبة، أيمكن إيقاظ حسقيل وزملائه؟
فأجبته: ربما، ولكن على أبناء العراق أن يرغبوا في ذلك أولاً ثم يجدوا الوسيلة لإيقاظ حسقيل الرحوم والمخلصين من سباتهم العميق.
في قصيدة للمرحوم مراد العماري احد رواد الصحافة اليهود في العراق بعنوان quot;صرخة من الأعماقquot;:
بَنى وطني الأمـواتَ هذي ديارُكُمتُبــاح وأمــرُ الأجنبــيِّ مكــرَّمُ
بنى وطني الأمـوات هـلاّ بُعثتُـمُفبعدَكــم الأحيــاءُ نـامُـوا وهوَّمُـوا
بَنى وطني الأمـوات هبّـوا لتنقذوابني الوطن الأحياءَ، فالوضعُ مظلمُ
بَنى وطني الأمـوات هلاّ اسـتفقتُمُفقدْ بلغ السـيـل الزُبـى، تقحَّمــوا
بني وطني الأمـوات هيَّـا تحرَّكوافإنَّ الذي فـي الرافدَيْــن لمأْتـمُ

وبدا نبيل لي ثانية شارد الذهن ثانية، فقلت له: ها اخويا ضربت دالغة مرة اللخ.

فضحك قائلاً: خليتني افكر ما راح نگدر نگعدهم بالوكت گبل نهاية الشهر!