إستثمار غياب الزعيم

حينما إستدعى جلال طالباني الأمين العام للإتحاد الوطني عام 2000 الدكتور برهم صالح الى كردستان لتوليته رئاسة حكومة الإقليم بإدارتها في مدينة السليمانية كان الأمل يحدو بأن يحدث طالباني تغييرا حقيقيا بالنظام السياسي بكردستان. فقد كانت كردستان تنفض عن نفسها توا غبار الحرب الداخلية التي كان لبرهم صالح من خلال رئاسته لمكتب العلاقات الخارجية للإتحاد الوطني بالولايات المتحدة دورا بارزا في إطفاء حريق تلك الحرب التي كادت أن تودي بالتجربة الكردية وما حققه الشعب الكردي من مكسب التحرر من قبضة النظام الدكتاتوري.

منذ ذلك الحين ظهر برهم كرجل للمرحلة،وتعلقت الآمال به لإجراء تغيير في الحياة السياسية خاصة وأنه يتملك بالإضافة الى حنكته الدبلوماسية وإعتداله الحزبي وكفاءته الإدارية وشهادته الأكاديمية العليا التي كان معظم قيادات الإتحاد الوطني من الرعيل الأول والمحاربين القدماء يفتقرون لمثل هذه المزايا. وكان برهم يحظى بدعم كبير من طالباني الذي تعامل معه كإبنه وسانده كظهير قوي وقدمه فيما بعد للصفوف الأمامية ليحتل أخيرا منصب نائبه بإدارة شؤون الحزب،ثم ترشيحه لأعلى المناصب القيادية بالعراق الجديد بعد سقوط النظام الدكتاتوري السابق.

دعم طالباني كان له الدور الأكبر في بروز كفاءة برهم وقدرته على مواصلة مهامه على رغم التحديات التي واجهته، خاصة معاداته من قبل رجال الثورة، وأقصد مقاتلي الجبل، الذين كانوا يأخذون عليه أنه لم يصعد الى الجبل بل قضى معظم حياته السياسية في بلدان أوروبا وأميركا، ولكن السياسة ليست مجرد قتالا في الخنادق،وأن قضية بحجم القضية الكردية وحقوق مشروعة لشعب حرم منها لأكثر من ثمانية عقود تحتاج في بعض مراحلها الى رجال دولة وسياسيين محنكيين لإنتزاعها.

بعد أن تم ترشيح طالباني لرئاسة الدولة العراقية الجديدة وإكماله الدورة الثانية، وظهور بوادر البحث عن بديل له بالموقع الرئاسي خاصة وأن التعديلات الدستورية منعت طالباني من الترشح لدورة ثالثة،كان إسم برهم صالح يحتل الأولوية في الترشيحاتـ، بل يكاد يكون الرجل هو الوحيد من بين قيادات الإتحاد من يمتلك الكفاءة والمقدرة على إدارة هذا المنصب، خصوصا وأنه كان مقبولا شعبيا على مستوى العراق بالنظر لما قدمه أثناء توليه منصب نائب رئيس الوزراء العراقي لمرتين، كما أنه مجمع عليه من قبل القوى الكردستانية،وهو المرشح غير المتنازع عليه لقيادة الإتحاد الوطني في ظل غياب الرئيس طالباني.

بعد تعرض الرئيس طالباني الى أزمته الصحية الأخيرة، ونقل أنباء عن تدهور صحته حتى قيل أنه توفي ( لاسمح الله) جرى الحديث مطولا حول الخليفة المحتمل لمنصبه في بغداد كرئيس للجمهورية،ومنصبه كأمين عام للإتحاد الوطني.لكن برهم حاول بإستمرار من خلال التصريحات الصحفية التي إطلعت عليها أن يتهرب من خوض هذا الحديث مادام مام جلال حيا يرزق. وكان يتعامل معه كأنه والده ينتظر عودته سالما معافا، فلم يكن كآخرين ممن تاجروا&بوضع طالباني ونقلوا عنه أشياء لم يقلها، وإستغلوا غيابه ليدمروا حزبه ويقلبوا عاليه سافله، ويعرضوا حزبه الى أفظع هزيمة إنتخابية حلت به منذ نشوئه والى اليوم.

غياب طالباني عن المشهد السياسي بسبب ظروف مرضه ودخوله بمراحل من الغيبوبة، والطوق الشديد الذي فرضته عائلته بمعاونة طبيبه الخاص نجم الدين كريم، وعزله حتى عن أقرب المقربين له، وجعله يعيش في عالم آخر لايمت بصلة للواقع الكردستاني والعراقي، حتى أن العائلة منعت كبار قادة الدولة بمن فيهم أصدقاء نضال طالباني القدماء، وكذلك نائبيه الحزبيين برهم وكوسرت من لقائه،حتى يتمكنوا من تمرير مخطط تسلط من بقي من عائلة طالباني على السلطة والسيطرة التامة على مفاصل الحزب الأمنية والعسكرية والمالية. وهكذا كان. لم يستطع أحد طوال ما يقرب السنتين من رقود طالباني بالمستشفى من لقائه ونقل ما يدور بكردستان والهزائم المتكررة التي تعرض لها حزبه، وفي المقابل تمكنت زوجة الرئيس وهي عضو بسيط بالمكتب السياسي أن تفرض نفسها على قيادة الحزب وتملك مقاديره وتكون الآمرة الناهية التي لا ترد كلمتها، وأصبح أعضاء المكتب السياسي والمجلس القيادي تحت إمرتها خوفا من ضياع إمتيازاتهم وتهديد مصالحهم الشخصية.

وبعد أن أصبح القرار السياسي داخل قيادة الإتحاد بيد زوجة الرئيس ظهر الخلاف الكامن بينها وبين برهم، ووقفت بصلابة وبكل إمكانياتها بوجه بروز أي دور لبرهم في قيادة الحزب بعد غياب طالباني عن المشهد، وكرست بذلك مفهوم حزب العائلة بالإتحاد الوطني الذي هو تنظيم إشتراكي ديمقراطي وينتمي لمنظمة الإشتراكية الدولية.

ومما زاد الطين بلة هي الهزيمة المنكرة التي أصابت الإتحاد الوطني بالإنتخابات البرلمانية التي جرت العام الماضي، حيث فقد هذا الحزب نصف شعبيته ومقاعده بالبرلمان الكردستاني، مما أظهر الحاجة الى تجديد وتغيير سياسة الحزب، وتم إقتراح عقد المؤتمر التنظيمي الرابع من قبل برهم صالح لوقف تدهور أوضاع الحزب والإتفاق على تأسيس هيئة قيادية جديدة تسعى لإنهاض الإتحاد الوطني من كبوته، ولكن عائلة طالباني المتنفذة بقيادة الحزب وقفت بكل قوة بوجه إنعقاد هذا المؤتمر وأفشلت كل الجهود المبذولة لعقده قبيل الإنتخابات النيابية ومجالس المحافظات لكي يعاد تنظيم الصفوف ويستعيد الإتحاد الوطني بعضا من شعبيته المنهارة، وبدلا من إتاحة الفرصة أمام القيادات الكفوءة والكوادر الحزبية التي إلتفت حول برهم والتيار الداعي للإصلاح، خرجت قيادة الحزب بإمرة هيرو إبراهيم أحمد بنتائج متواضعة من تلك الإنتخابات.

خلال الأزمة بين أقطاب قيادة الإتحاد بذلت إيران جهود وساطة مستمرة لرأب الصدع داخل قيادة الإتحاد الوطني وإجتمع مسؤلون كبار بالدولة الإيرانية وهي أقوى حلفاء الإتحاد الوطني بالأقطاب الثلاثة (برهم وكوسرت وهيرو) وجرى هناك إتفاق يقضي بتشكيل لجنة قيادية ثلاثية تضم الثلاثة لإدارة شؤون الحزب الى حين إنعقاد المؤتمر. ولكن مع عودتها الى كردستان تراجعت هيرو عن تنفيذ الإتفاق لأنها لم تكن تريد أن تعطي أي دور قيادي وسياسي لبرهم صالح بهذه المرحلة. وكانت تلك إشارة ورسالة واضحة من زوجة طالباني لبرهم بأنها لن تقبل به بديلا عن طالباني لقيادة الحزب ولا قائما بأي دور لتجديد وإنهاض الحزب.

تعود جذور الخلافات بين هيرو وبرهم الى أيام تولي الأخير رئاسة الحكومة بالتشكيلة السادسة عام 2009، حيث تم تعيين هيرو مسؤولا عن إدارة الفرع الأول للإتحاد الوطني بمحافظة السليمانية، وكانت تعارض أية خطوات أو قرارات يصدرها برهم بمعزل عن موافقتها أو رأيها، خاصة فيما يتعلق بالإصلاحات الإدارية ومناصب مسؤولي الدولة، وكانت تريد أن تنفرد بتلك&السلطة بإعتبارها المسؤولة الحزبية عن محافظة السليمانية، لكن برهم إعترض على إعطائها أي دور لأن ذلك كان سيكرس لمبدأ التدخل الحزبي بأعمال الحكومة.

إستمر عداء الاثنين الى حين إنتهاء ولاية الرئيس طالباني وحاجة الإتحاد الوطني لمرشح بديل عنه يخلفه بذلك المنصب، ورغم أن برهم كان هو المرشح الوحيد والأقوى لنيل المنصب لكنه إصطدم مرة أخرى بإرادة زوجة طالباني التي بذلت كل ما بوسعها من أجل إستبعاد برهم عن شغل ذلك المنصب، وقامت بالإتفاق مع الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة رئيس الإقليم مسعود بارزاني بعقد صفقة تحرم برهم من تولي المنصب وفي المقال القادم سأكشف عن أسرار هذه الصفقة أمام الجميع وبكل تفاصيلها وملابساتها ودور القيادات الأخرى فيها.