في مقالته الأخيرة قبل أيام في صحيفة الانديبندنت البريطانية يروي الصحفي و الكاتب المعروف " روبرت فيسك " تفاصيل عن قرب لما يحدث للمسيحيين في مدينة القامشلي السورية إثر زيارته مؤخراً لها، و من المؤسف أن معظم الجهات الإعلامية السورية بمختلف توجهاتها اجتزأت ما يخدم سياستها من مقال " فيسك " فبقي ما ورد في المقالة ضبابياً و غائماً.
العنوان يبدو غريباً بعض الشيء.... ((داعش في سوريا: في ظلال& الموت بضعة الاف من المسيحيين باقون لتحدي المتشددين)).
من الثابت و المؤكد أن مسيحيي القامشلي لا يملكون القوة الكافية للتصدي لداعش، فالمسلحين المسيحيين لا يمتلكون إلا أسلحة خفيفة و اعدادهم لا تصد الهجوم عن حارة من حارات المدينة، إضافة الى أن الأرقام التي أُعطيت لكاتب المقال عن أعداد المسيحيين في القامشلي التي كانت ثمانية الاف و بقي منهم خمسة الاف هي ارقام غير حقيقية على الاطلاق فالارقام اكبر لمن كانوا و لمن رحلوا و لمن ظلوا، و في بلد تصبح الاحصائيات لوغاريتمات من هراء فإن المصادر المتخصصة في مجال الاحصائيات السكانية مسيسسة و لا تعتمد مناهج و حقائق علمية و ديموغرافية واضحة، لذا فإن الجهات التي أعطت لـــ " فيسك " هذه الأرقام تريد ان تقلل من حجم الكارثة و لا تروي سوى نصف الحقيقة عن أسباب الهجرة من القامشلي، فاختصار الهجرة لسبب وجود و خطر داعش هو اختزال غير بريء على الاطلاق، و الإيحاء بأن داعش و ((زملاءه من الإسلاميين)) كما يقول " فيسك " تحيط بالقامشلي و ترهب و ترعب المسيحيين فقط كلام غير صحيح.
و بالطبع هنا نحن لا نجمل صورة داعش و لا ندافع عنها، فالهجرة التي بدأت منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي و استمرت قبل ان تقل و تتوقف لسنوات قبل الازمة و عادت و تفعّلت منذ ربيع 2011، لم تكن خلالها داعش موجودة و لا " الخطر الإسلامي " كما يوحي المقال موجوداً بل الأسباب كثيرة و متعددة، كغياب الفرص في العمل و المحاصصة الطائفية في المناصب و الوظائف و تحويل المسيحي لجزء من صراع لا ناقة و لا جمل له فيه، و تضييق الحريات و قمع المواهب& و و و و... أسباب عديدة هذه بعضها فقط.
ثم أننا إذا تعاملنا بلغة الأرقام فإن المسيحيين المهاجرين من سوريا و المهجّرين منها هم جزء من كل، فملايين السوريين الذين اصبحوا (قسراً) خارج الحدود ليسوا مسيحيين فقط، و اختصار الهجرة و التهجير للمسيحيين السوريين فقط هو اختصار فظيع و مؤلم لمعاناة المجتمع السوري، و الانكى من ذلك تشم منه رائحة إيقاظ لفتنة طائفية أُوقظت و اشتعلت نيرانها و ليست بحاجة لمن يصب الزيت على نارها.
أما فيما يخص ذاكرة الخوف لدى مسيحيي القامشلي و التي تعود لابادة عمرها مائة عام فإنه من الطبيعي أن تترسخ كـــ ((فوبيا)) و تنتقل من جيل لاخر، و مطالبة الغرب بحل الازمة و منع الهجرة فيه إغفال لجانب مهم مما يجري،& فالاولّى بنا أن نطالب حكوماتنا أن تمنح من يفكر بالهجرة الامن و الأمان و التخفيف من صدمة الناس و ترويعهم، و لكن ما حدث كام مخالفاً لذلك تماماً، فمنذ اليوم الأول للازمة تم الإيحاء للمسيحيين بانهم مهديين و في خطر و قبل أن تنبت جبهة النصرة و داعش، بان وجودهم محاط بخطر خفي و عُرض عليهم التسلح و عندما لم تجد الفكرة الرواج و القبول المأمول منها تشكلت ما يسميها " روبرت فيسك " في مقاله الميليشيات المحلية التي لم تمنح الطمأنينة بل ساهمت مع مثيلاتها في تقطيع أوصال المدينة بحواجز تكبر و تتضخم كل يوم دون أي خطر واضح يهددها بل كان الهدف منها ترسيخ فكرة الرعب و الخوف " المتوارث " لدى الناس بان هناك خطر قادم.
و كواحد من أبناء القامشلي خرج منها قبل اشهر قليلة، أقف مندهشاً و مرتاباً مما خطّه كاتب بحجم و قيمة " روبرت فيسك "...
فهل يُعقل أن يسلط الضوء على الكارثة التي تعيشها القامشلي منذ أكثر من ثلاث سنوات بتصريحات لرجال الدين المسيحي و إغفال رأي الشباب المسيحي الذي يعمل على الأرض؟!.
و هل من الممكن أن نفصل في مصير القامشلي بين مسيحييها و كردها و عربها؟!.
أليس الجميع مستهدفون؟!.
أليست البنية الاجتماعية المتماسكة فيها هي من حَمتها من الغرق في بحر الدم المُراق في سوريا منذ ثلاث سنوات و أكثر؟!.
و هل حان موعد إيقاظ الخوف بعد مائة عام على الإبادة لحصد نتائج كارثية و مريبة ؟!.
و هل يتوقع " فيسك " و مَن قابلهم أن بمثل هذه التقارير الصحفية نوقف الهجرة أم نزيد من مخاوف الناس و ندفع بهم لامتظاء كتف الهروب؟!.
أسئلة قد لا املك إجابات عنها و لكن من المؤكد أن الأيام القادمة ستحمل إجابات قاطعة و مؤلمة عنها.....
كاتب سوري مقيم بالسويد&&&&