من أمريكا مع التحية (22):

عندما قامت ثورات الربيع العربي بدءا من تونس ثم إنتقلت الى مصر كتبت مقالة في إيلاف أثني على ثورة الشباب العربي الذين ملوا الإستبداد وهفت نفوسهم لمعانقة نسائم الحرية.. وتوقعتها ككل المتفائلين ثورات حقيقية مثل الثورة الفرنسية التي إقتلعت جذور الإستبداد بشقيه االإقطاعي والكهنوتي المتلبس بثياب الدين المزيف.
وذكرت في مقالاتي أن الثورة الفرنسية هبت لإجتثاث كل عناصر الإستبداد ما دفع مفكر الثورة الفرنسية وفلسوفها العظيم فولتير أن يقول: إشنقوا آخر قسيس بأمعاء آخر إقطاعي , كدليل على شعور النقمة عند الجماهير التي يصورها مفكر بحجم فولتير الذي عاش يحرض الناس على رفض الطغيان والإستبدد الذي يمارسه الحاكم الاقطاعي مسنودا بشرعية رجال الكنيسة الذين يوفرون له كل الدعم الديني الذي يشرعن سيطرة الإستبداد بكل وسائله القمعية.
وفجأة.. شاهدنا الجماهير تزحف بإتجاه صناديق الإقتراع في تونس ومصر لتنتخب رجال الدين المسيسين كبديل للإقطاعيين والعسكر الذين إستبدوا بالحكم عقودا طويلة.. عكس ما سارت عليه الثورات التي نجحت في ترسيخ قيم الحرية والعدالة والمساواة في اوروبا وبالذات في فرنسا... حينها كتبت مقالة أخرى هنا في ايلاف.. وقلت: إنها (ثوارة ) وليست ثورات وأقصد ما يحدث في تلك الدول العربية التي ثارت فيها الشعوب على الإستبداد العسكري والإقطاعي الإستبدادي... لتختار المتأسلمين السياسيين بدلا من الاقطاعيين والعسكر.. وكان يجب عليهم أن يزيحوا الإقطاعيين والعسكر والمتأسلمين المتاجرين بالدين ويختاروا حكاما مدنييين يؤمنون بحرية الإنسان والحكم المدني الديموقراطي كي يحققوا آمال الثورات التي ثارت من أجل تلك القيم العظيمة. لكن اختيار الشعوب لتجار الاسلام السياسي كي يحكموهم سواء بإختيارهم لحزب النهضة في تونس أو لحزب الإخوان في مصر اثبت لي عدم نضج تلك الشعوب التي برغم ما قدمته من دماء وأثمان غالية إلا أنها عادت لتختار طغاة بدلاء كي يستبدوا بها من جديد ووسيلتهم للإستبداد هذه المرة هو الإستغلال الخاطيء للدين وكأن تلك الشعوب تعيش في عصور الظلام التي عاشتها أوروبا قبل أكثر من أربعة قرون ولم تتعلم من تجارب التاريخ وتطور الشعوب الأقدم حضارة وحرية وتطورا!
وهكذا مارس الاسلامويون في تونس ومصر إستبدادهم الجديد ولم يسعفهم الذكاء أن يصبروا حتى يتمكنوا من السيطرة.. وكانت شهوة التسلط عندهم أقوى من قدرة ممارسة الصبر حتى إفتضح أمرهم وإنكشف هواهم وجهلهم بحكم الشعوب حسب الطرق الديموقراطية التي أوصلتهم للحكم.. فثار الشعب في مصر ليعيد الحكم العسكري من جديد كأفضل خيار... وصبر التونسيون حتى إنقضت مهلة حكم الاسلامويين ليختاروا عبر طريقة تصحيحية وديموقراطية حقيقية برلمانا ورئيسا.
من تونس بدأ عصر الثورات العربية معاقا.. ومنها يعاد تصحيح أخطاء تلك الثورات... فهل ياترى نرى الشعب التونسي يبدأ رسم معالم مستقبله بطريقة تصحيحية حقيقية تسير به نحو التقدم وصنع مستقبل ديموقراطي متمدن... أم أنها مجرد مرحلة عابرة.. كعادة المجتمعات العربية التي لا تلبث أن تعود لتمارس حياة الإستبداد من جديد كحالة مرضية جينية تسري في دماء العربي الذي لايقوى على العيش بدون واقع يشعر فيه بالغبن والقمع والمهانة؟!
فلننتظر ونرى ماذا ستحمله التجربة التونسية التي منها: بدأ عصر الربيع العربي.. ثم تحول خريفا.. وهاهو يعود من تونس مبشرا بقدوم مرحلة جديدة... يرحل فيها الإستبداد الاقطاعي والعسكري والديني ولو لمرحلة مؤقته من حياة العرب المستبد بها منذ قرون.... ولتحل الحرية بكل مقوماتها الديموقراطية والإنسانية والحقوقية التي تبشر ببزوغ قيم العدالة والمساواة المفقودة في واقع تئن فيه شعوبه من قسوة الظلم القاسي وجور الظلام الدامس؟!&&
&