لا يمكن مقاربة المشهد السوري هذه الأيام، دون أن يبرز اسم حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) بوصفه احد الفاعلين الرئيسيين في الوضع الثوري في سورية، لا سيما وقد فرض سيطرته على مساحات شاسعة من الجغرافيا السورية،وأقام عليها ما أسماه الإدارة الذاتية الديمقراطية،التي تشكل بحسب هذا الحزب، ترجمة لمشروعه السياسي الذي يتبنى نموذجا عن الدولة والنظام السياسي، يعد جديدا وغريبا على الوعي السياسي في عموم منطقة الشرق الأوسط.

المنظور الذي تود هذه المادة أن تقارب فيه حالة حزب الاتحاد الديمقراطي، يتوخى الحيادية، معتمدا على ما يقوله الخطاب السياسي لهذا الحزب عن ذاته، وما يقوله عنه خصومه،ليترك للمتلقي المقارنة والحكم، بالقياس إلى مساءلة الواقع ومعاينته من أجل الكشف عن مصداقية كل فريق وصحة قراءاته ومواقفه. ففي الوقت الذي تتهمه بعض الأصوات القومية، عربية أو آشورية سريانية،من تلك المحسوبة على الثورة السورية، بأنه حزب قومي متعصب يمارس التطهير العرقي والتهجير القسري لغير الكرد، ضاربين مثلا ببعض القرى العربية التي هجرها أهلها نتيجة لمعارك كان قد خاضها ضد كتائب مسلحة محلية،وانه حزب يدعم النظام ويمارس التشبيح لمصلحته ولا ينتمي إلى الثورة السورية، بدلالة تضييقه على المظاهرات الكردية الداعمة للثورة السورية التي سيرتها في فترات مختلفة،قوى شبابية أو حزبية كردية مناهضة له، ووجود بعض المظاهر التي تنتمي وتؤشر إلى سيطرة النظام في مناطق نفوذه، من مفارز أمنية وتماثيل لحافظ الأسد، يطيب للعارفين في شؤون حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) والقريبين منه الإعلان، بأنه تحرر من انغلاقات العصبية التي تعتور الوعي القومي التقليدي، لينحاز إلى معنى سياسي جديد ممتلئ بالمضامين الإنسانية،متخليا عن مطلب الدولة القومية التقليدية، لمصلحة دولة الأمة الديمقراطية، بحيث يكون نموذج الدولة القائم على مفهوم الإدارات الذاتية الديمقراطية الموسعة،هو تجسد عملي لفهمه عن الدولة و الوطن،وأن تركيبة السلطة والمؤسسات في مناطق الإدارة الذاتية الموسعة التي أنشأها ويشرف عليها،إنما تعكس إلى حد بعيد إيمانه بقيم الديمقراطية والشراكة مع جميع مكونات المنطقة. أما عن الاتهامات التي توجه إليه بممارسة القمع، يقول مؤيدو الحزب، إن أي حالات قمع حصلت، هي حالات طارئة وليست هيكلية، ويبررون حدوث ذلك بظروف المنطقة الصعبة والأوضاع المختلطة التي تعيشها، وانه حين تغيب سلطة الدولة في بقعة ما، تصبح عرضة لتنازع قوى متعددة، لذلك فوجود رأس سياسي عسكري واحد يفرض سلطته ويتحرك وفقا لإستراتيجية واضحة،هو أمر مهم كي يجنبها ذلك الانزلاق إلى الأوضاع التي وصلتها مناطق أخرى في سورية،وأن وضع انهيار الدولة والاحتراب الأهلي يسمح ويشرعن لحالة طوارئ،ووضع استثنائي تضيق فيها ممارسة الحريات العامة، وهو ما يمنح المؤسسات التي أنشأتها الإدارة الذاتية بغرض تقويض سلطة النظام المستبد و ثورة عليه، الشرعية اللازمة لاتخاذ الإجراءات المناسبة في ظل الوضع الحالي.

وعن موقف حزب الاتحاد الديمقراطي من الثورة السورية يقول منظرو الحزب، أنه ومنذ تأسيسه في العام 2003،أعلن أنه يناهض النظام الديكتاتوري السوري، ويطالب بالديمقراطية للبلاد، ويدللون على ذلك باعتقال النظام للمئات من ناشطي الحزب قبل الثورة بسنوات، قضى بعضهم تحت التعذيب في سجون بشار الأسد من أجل هذا الهدف. ولمن يعرض بسياسة الحزب الحالية، بإحالتها إلى تجربة العمال الكردستاني في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي،يقولون أن حزبهم الآن ينتمي إلى ميراث القطع مع&تجربة العمال الكردستاني قبل القراءات الجديدة لزعيمه عبد الله أوجلان، تلك التجربة التي عرفت بإفادتها من دعم الديكتاتور حافظ الأسد لأغراض عملية وأيديولوجية كانت سائدة آنذاك،وعلى ذلك فإن افتراقه عن الممثلين الرسميين للثورة السورية من المعارضة ليس إلا بسبب ما أظهروه من تشابه جوهري مع النظام الذي اشتعلت الثورة ضده، سواء في إقصائيتهم واستحواذيتهم وفسادهم، أو في عدم اعترافهم بالآخر الكردي الذي أكدته سياساتهم طوال السنوات الماضية،فالثورة بالنسبة لحزب الاتحاد الديمقراطي لا تتحقق فقط بإسقاط النظام الحالي، بل في القطع مع الفكر الذي يمثله، والسير بوجهة معرفية /سياسية مناقضة تماما لما ثابر على تكريسه في سورية طوال عقود حكمه،و هو ما فشلت المعارضة، سواء في علاقاتها البينية أو في أشكال تعاطيها المختلفة مع الوضع الثوري، في إبرازه والتمحور حوله، كل ذلك دفع هذا الحزب ليسلك خيارا ثالثا،يفسر من خلاله الثورة، ينأى بنفسه عن النظام، كما عن المعارضة.

وعن ما يقال بخصوص وجود النظام، في بعض مناطق الإدارة الذاتية التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي، سواء تمثل ببضع جنود ومفرزة عسكرية متواجدة هنا أو هناك، أو بوجود تماثيل للأسد الأب، فالمقربون منه يعتبرون، أن عدم إنهاء هذه المظاهر رغم إحراز تقدم كبير في إزالة معظم تماثيل الديكتاتور الأب، إنما يتم لاعتبارات تكتيكية بحتة، وأنه في جميع الأحوال، لا يتجاوز كونه وجودا رمزيا لا قيمة له، لا يلبث في ظل إعادة تشكيل السلطة والمؤسسات وفقا لمشروع يتناقض مع دولة بشار الأسد بشكل جذري، أن يتلاشى ويختفي، كيف لا وتجربة الإدارة الذاتية الموسعة، تثابر على تهشيم سلطة النظام الأسدي وتقويض نفوذه وشرخ هيبته في جوهر نفوذه وهيمنته، بشكل مادي وعلى الأرض من خلال إنشاء مؤسسات سلطة تنفيذية وتشريعية وعسكرية وأمنية بديلة، وهو ما لا يصب وفقا لأي تأويل، في مشروع الاستبداد ولا في نموذج دولته القائم، الأمر الذي يفقد الآراء عن دعم الاتحاد الديمقراطي للنظام مصداقيتها تماما. أخيرا وبعيدا عن حجج الطرفين،سواء التي يسوقها ممثلي الثورة الرسميين وأعداء تجربة الإدارة الذاتية الموسعة، أو أنصار الاتحاد الديمقراطي،ليس من الصعب القول، من موقع المحلل والمراقب السياسي، بأن حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)،استطاع أن ينجز حضورا مدهشا على الأرض،ويحوز مركز ثقل رئيسي في الواقع السوري، لا يمكن تجاوزه بسهولة، وكان ذلك فيما بدا، نتيجة حيازته لفهم متقدم عن التكتيكي والاستراتيجي في ممارسته السياسة،والقدرة على التحرك بينهما بمرونة وديناميكية ملفتة. لقد أثبت، خلافا للأحزاب السورية العربية والكردية الأخرى،أنه يعي تماما ما تعنيه السياسة وكيف يجب أن تمارس، فكان يتوخى الفعل والتأثير في الواقع، يوظف الظروف والحيثيات لمصلحة أهدافه وسقوفه العليا النظرية، التي أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها تستحق التأمل، إن لم يكن الإشادة، لا سيما في أبعادها التنويرية،التي تقع حقوق المرأة في القلب منها،وفي تجاوزها للمعنى القومي التقليدي، الضيق والتعصبي، وتبنيها لمفاهيم متقدمة عن المجتمع الايكولوجي والأمة الديمقراطية.

عضو رابطة الصحفيين السوريين