هل تُعنى واشنطن بالأثر السلبي الذي يتركه موقفُها من محاولة الفلسطينيين وضعَ حدِّ للاحتلال الإسرائيلي لما يتبقى من فلسطين، 22 % فقط من مساحة فلسطين التاريخية؟
أم تُراها تُغلّب اعتباراتٍ تحالفية ثابتة وعميقة لا يطالها التفكير، أو إعادةُ النظر، ولو حتى بما لا يتعارض مع بقاء هذا المشروع لإسرائيل ذات الدور الوظيفي في الأساس؟
فلا تزال إدارة أوباما، كما الإدارات الأمريكية المتعاقبة، برغم ما يعتري علاقتِها مع حكُّام إسرائيل، تقف إلى جانبها، كتفا بكتف، كما وصفت مصادر رفيعة في الخارجية الإسرائيلية الاتصالاتِ الأمريكية التي قامت بها خاصة مع الدول الأفريقية رواندا ونيجيريا، والتي أسهمت في النهاية بامتناع هذه الدول عن التصويت؛ الأمر الذي أجهض المشروع الفلسطيني، فلم يحصل على 9 أصوات في مجلس الأمن." وفقا لصحيفة يديعوت أحرونوت.
مع أنه قد يقال إن واشنطن إنما فعلت ذلك، مدفوعةً أيضا بالحرص على أن لا تبدو المانعَ الوحيد في سبيل التطلعات الفلسطينية والعربية، لتحقيق أدنى الحقوق الفلسطينية. وقد يقال أيضا إنَّ واشنطن طالما عارضت تدويل ما يُسمَّى بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وذلك لدواعي التفرد في هذه الأزمة البالغة التأثير على مجمل الأوضاع في البلاد العربية والإقليم.
وهو الأمر (أي التدويل) الذي تشاركها إسرائيل في رفضه، ولا تسمح، أو تترك مجالا لدول أوروبية حاولت، كما فرنسا، مثلا، وغيرُها، في مرحلة من المراحل، توسيعَ دورها؛ ليتجاوز البعد الاقتصادي، وليتصدر في طرح مشاريع سياسية، بمعزل عن المقاربات الأمريكية، فلم تكن تلك المحاولات تلقى أي اهتمام إسرائيلي جِدِّي، بل كانت رموز سياسية فرنسية تترك للمهانة والاعتداء، كما حصل مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك، عام 1996م حين تعرَّض لمضايقات من عناصر الأمن الإسرائيلي الذين رافقوه في جولته؛ إذ لم يتحمل المزاجُ الإسرائيلي السائد تأييدَه الحقَّ الفلسطيني في القدس، ودعمَه لأن تصبح القدسُ الشرقية عاصمةَ الدولة الفلسطينية.
ولا تزال المواقف الأوروبية، بصفة عامة، تتقدم على الموقف الأمريكي، كما شهدنا مؤخرا اعترافاتِ برلماناتٍ أوروبية، و"البرلمان الأوروبي" بدولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران.
هنا يظهر التباين بين أوروبا، بموقعها الجغرافي وخبرتها التاريخية والاستعمارية، وبين الإدارة الأمريكية التي، وإنْ كانت تدرك خطورة تعنُّت نتنياهو، ومَنْ هم على يمينه، وضيقَ أفقهم، إلا أنها بحكم مُقيِّداتِها، في الكونغرس، ولا سيما بعد تغلّب الجمهوريين الأكثر تقرُّبا من اليمين الإسرائيلي، وكذلك ما يحكم هذه الإدارة الأمريكية من رأي عام أمريكي متأصل يرفض الضغط على إسرائيل، مستفيدا، من جماعات الضغط اليهودية، ومن الإعلام الأمريكي المنحاز بقوة لإسرائيل، بحكم هذه المقيّدات لا تملك أي إدارة أمريكية ممارسة هذا الضغط اللازم.
&تَمضي أمريكا، ولا نقول، إدارة معينة، في هذا المسار الأصم، عن المتغيِّرات المهمة في المنطقة والأطراف ذات العلاقة، ففي إسرائيل جنوحٌ مقلق نحو اليمين العنصري المتلطِّي بالدِّين، وفي الطرف الفلسطيني الرسمي حالةُ يأسٍ معلنة من الخيار التفاوضي؛ ومحاولاتٌ لاستبقاء صدقيةٍ ضرورية أمام الشعب الفلسطيني المشبع بالخيبات، بالرغم من كون هذا الطرف الفلسطيني المؤمن بالخيار السلمي التفاوضي حقَّق اعترافا بمتطلباته الاقتصادية، وذلك حين أقرَّ البنكُ الدولي وصندوق النَّقد الدولي عام 2012م بالتقدُّم الهام المحرز في جهود بناء الدولة الفلسطينية، وعلى الصعيد الأمني نالت أجهزة السلطة ثقةً أمريكية، وحتى إسرائيلية، ولا يزال التنسيق الأمني، حتى في أحلك الظروف السياسية، وبمعزل عنها، مستمرا.
&وفي المنطقة العربية والإسلامية ارتفاعٌ عن الصمت واللافعل، إلى ديناميات قتالية شرسة، من مغذِّياتِها ومحايثاتِها الشعورُ بالخذلان الدولي، تُجاه فلسطين، بل الشعور بالتواطؤ الدولي، مع دولةٍ تكشِّر أكثر عن أنيابها، وتمعن في مشروعها، نحو تهويد القدس، والاستحواذ على المسجد الأقصى، بما تمثله القدس والأقصى من رمزية مركزية.
ولا يُتوقَّع، بعد هذه المساندة المطلقة والجِدِّية في مجلس الأمن، أن تُسلِم أمريكا إسرائيلَ إلى المحاكم الدولية؛ لتخضع جرائمُها وجرائم قادتها التي وُصفت بأنها جرائم حرب، للمساءلة القانونية؛ الأمر الذي سيزيد من حالة التوّحد في الوجدان العربي والإسلامي بين إسرائيل المعتدية، وآخرُ اعتداءاتها على غزة لم تسقطه الذاكرةُ العربية الجمعية، ولا الإنسانية، وبين أمريكا التي يتطلب دورُها في المنطقة مسافةً ضرورية بينها وبين إسرائيل، ولا سيما في هذه الآونة، لكن يبدو أنها لا تؤمِّل كثيرا وجدّيا باستعادة صدقيةً تآكلت؛ بفعل سياساتها نفسها في العراق وسورية وأفغانستان، حيث تترك بلادا مُصدَّعة البناء، أو منعدمة الأركان، إلا من محاولات سطحية تلفيقية في الأغلب، أولا، ويزيدها تآكلا هذا الدعمُ لإسرائيل، وإدارةُ الظهر لكل الوعي العالمي المتزايد بالحق الفلسطيني، دون أن تنجح واشنطن في إظهار أيِّ تعبيرات عن هذه التحوّلات، إلا بمحاولات الحفاظ على السلطة الفلسطينية من الانهيار، وهي محاولات تكتيكية لا تمسُّ جوهر الآمال الفلسطينية والعربية المعلَّقة على مشروع السلطة؛ لتبلغ حالةَ الدولة الفلسطينية.

&