لعلّ أخطر ما تمرّ به القضية الفلسطينية، التي هي قضيّة شعب يسعى إلى أن تكون لديه دولة مستقلّة "قابلة للحياة" يمارس على أرضها حقوقه الوطنية، ذلك الشرخ القائم بين الضفّة الغربية وقطاع غزّة. كلّ كلام عن مصالحة وطنية فلسطينية بقي كلاما بكلام. ظل كلاما من النوع الذي لا معنى سياسيا له في غياب الجدّية في التوصّل إلى برنامج وطني فلسطيني معقول ومقبول يلقى دعما من المجتمع الدولي.
هل من حاجة إلى برنامج وطني جديد؟ ربّما كانت هناك حاجة إلى ذلك في غياب القدرة على الإتيان بموافقة "حماس" على البرنامج الذي تلتزمه منظمة التحرير الفلسطينية منذ العام ١٩٨٨. مثل هذا البرنامج شرط& لمصالحة جدّية. المهمّ هنا الحصول على موافقة شعبية على البرنامج الجديد عبر استفتاء للمواطنين في الضفة الغربية وغزّة.
مثل هذا الإستفتاء الذي يُفترض أن& تقبل السلطة الوطنية و"حماس" بنتيجته سلفا، يمكن أن يضع اساسا صحّيا لمصالحة حقيقية تؤدي، من وجهة نظر المتفائلين، إلى تحقيق تقدّم ما مع اسرائيل في اتجاه التخلص من الإحتلال. ولكن هل من مجال للتفاؤل بوجود حكومة اسرائيلية في أزمة عميقة مع ذاتها. أدّت الأزمة، بين ما أدّت اليه، إلى تحديد موعد لإنتخابات عامة في الشهر الثالث من ٢٠١٥؟
في اسوأ الأحوال، إنّ البرنامج الوطني الجديد الذي يدعو إليه بعض العقلاء، من بينهم الصديق مروان كنفاني (كان مستشارا لسنوات طويلة لياسر عرفات الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني) يمكن أن يقود إلى وقف حال التدهور، عبر ترميم البيت الفلسطيني من داخل. أكثر من ذلك، مثل هذا البرنامج يمكن أن يساعد في تأكيد أن الفلسطينيين يتوقون إلى السلام وأنّهم لا يطرحون مطالب مستحيلة. هذا ممكن في حال كانت اللغة المعتمدة في البرنامج من النوع الذي يمكن ان يحظى بدعم اميركي واوروبي.
اثبتت التجارب أنّ لا أمل في أيّ تسوية معقولة ومقبولة من دون دور أميركي فعّال يحظى في الوقت ذاته بدعم أوروبي.
فلسطينيا، هناك تدهور على كلّ صعيد. هذا ما كشفته حرب غزّة الأخيرة صيف العام ٢٠١٤. كشفت هذه الحرب أن الهمّ الأوّل لـ"حماس" هو السلطة ولا شيء آخر غير السلطة. تبيّن أنّ هناك شبقا ليس بعده شبق لدى الإخوان المسلمين إلى السلطة. ليس مهمّا خوض حروب خاسرة مع اسرائيل التي تستخدم ارهاب الدولة لتحقيق مآربها، ما دام في الإمكان الخروج من الحرب بانتصار وهمي من نوع الإنتصار على غزّة وأهلها. الإنتصار الوهمي يعني رفع علامات النصر على انقاض آلاف المنازل المهدمة ومئات الضحايا من النساء والأطفال.
المؤسف أنّه تبيّن بعد الحرب الأخيرة في غزّة أن الأنفاق حمت مقاتلي "حماس" فيما تُرك آلاف المدنيين في العراء تحت رحمة القنابل الإسرائيلية. من كلّ ما طرحته "حماس"، لم يتحقّق أي مطلب للحركة التي استهدفت أصلا إحراج مصر. الحصار مستمرّ. المطار لا يزال مغلقا، كذلك الميناء. وضع الصيّادين لم يتحسّن. فجأة تصاعدت وتيرة الكلام عن المصالحة الوطنية. لكن هذه الوتيرة ما لبثت أن خفّت بعدما اكتشفت "حماس" أن ليس ما يهدّد سلطتها وأنّ في استطاعتها المحافظة على "الإمارة الإسلامية" التي اقانتها في القطاع، خصوصا أنّ كلّ ما تريده مصر هو المنطقة العازلة في سيناء للحد من العمليات الإرهابية التي يمكن أن تستهدفها.
في النهاية، كيف الخروج من المأزق الفلسطيني؟ هل من يريد أصلا الخروج من المأزق الذي يخدم كلّ الأطراف على الأرض؟
"حماس" مهتمة بقطاع غزّة وتريد البقاء في السلطة مهما كلّف الأمر. إعادة إعمار القطاع آخر همّ لديها. من لا يعجبه الوضع يستطيع الرحيل في حال وجد من يمكّنه من الخروج من غزّة. للمرّة الأولى هناك شبّان غرقوا في البحر بعد محاولتهم التسلل إلى ايطاليا في زوارق غير آمنة يستخدمها مهرّبون محترفون لا تعني حياة الإنسان شيئا لهم.
السلطة الوطنية، من جهتها، لا تريد سوى البقاء في الضفّة الغربية. غزّة غير مهمّة ما دامت "حماس" عاجزة عن التسلل إلى السلطة. الدليل على ذلك، بقاء الضفّة صامتة عندما تعرّض القطاع لعدوان اسرائيلي في الصيف. لعلّ آخر ما يريده المواطن الفلسطيني في الضفّة هو انتقال تجربة غزّة إلى رام الله. لا يمكن لومه على ذلك بأي شكل. هناك للمرّة الأولى شعور بأنّ ثمّة حاجة إلى مزيد من الإستقرار والعمل على بناء مؤسسات الدولة المفترضة.
كانت الحكومة التي يرئسها الدكتور سلام فيّاض قادرة على المساهمة في ذلك. كانت أفضل شيء حدث للفلسطينيين منذ فترة طويلة. ولكن ما العمل عندما تكون لدى كثيرين في رام الله حاجة إلى تفادي أي تغيير من أيّ نوع كان تفاديا لصعود قيادات شابة من داخل الضفّة؟ ما العمل عندما سيطرح يوما موضوع الشرعية الفلسطينية والإنتخابات؟ هل من يريد انتخابات، أي نوع من الإنتخابات في هذه الأيّام؟
تبقى اسرائيل المهتمة بمراوحة الأمور مكانها. لا تريد اسرائيل التي تراهن على الوقت أي تغيير من أيّ شكل على الصعيد الفلسطيني. الوضع في غزّة يلائمها. خرجت من القطاع صيف العام ٢٠٠٥ ووجدت من يلبي لها كلّ طموحاتها. خرجت من أجل الإمساك بطريقة أفضل بالضفة الغربية والإستمرار في الإستيطان. وُجد من يلبي لها كلّ مطالبها بعدما راحت "حماس" تطلق الصواريخ من القطاع. مكّنتها هذه الصواريخ من إقناع العالم بأن لا شريك فلسطينيا يمكن التفاوض معه. ولذلك يقف المجتمع الدولي مكتوفا كلّما حصل اعتداء على غزّة. ليس هناك من يسأل حتّى لماذا بقاء الحصار الذي يستهدف أهل القطاع؟
ثمّة حاجة إلى مخرج. الأكيد أنّ البرنامج السياسي الجديد الذي يحظى بموافقة شعبية ليس سوى خطوة أولى في طريق طويل. الأكيد أيضا أنّ مثل هذه الخطوة الأولى، يمكن أن تساهم في ايجاد وضع طبيعي في العلاقة بين الضفّة والقطاع. لا بدّ من البحث عن قواسم مشتركة يمكن أن يكون البرنامج الوطني أحدها.
هل من سيسعى من أجل ذلك...أم أنّ السلطة تجعل المرء يتخلّى عن بصيرته، حتّى لو كان ما على المحكّ مستقبل شعب بكامله لا هدف له سوى ممارسة حقوقه المشروعة بابسط المفاهيم. ولكن هل "حماس" مهتمة أصلا بإعادة إعمار غزّة ورفاه المواطن فيها كي يكون هناك إنتقال إلى البحث في مستقبل الشعب الفلسطيني وفي قضية حيوية من نوع العلاقة بين الضفّة وغزّة في ظل العدوانية الإسرائيلية؟