&

لا ينظر إلى الخلف، و هذه هي المفارقة، بل يسير قُدُماً و إذا سقط منه شيء فإنه لا يفكر بالتقاطه أبداً. التاريخ الذي أعنيه هنا ليس ذلك المدون في الكتب، إنما هذا الذي تصنعه الشعوب الحية حضارةً و علماً و تجربةً. تجربة الإنسانية كلها التي هي في عمقها أكبر من أن يحملها شعب بمفرده أو حضارة بعينها. التجربة التي تتراكم عبر الزمن و الحضارات المتعاقبة و تتفاعل مع ما يحيط بها من منجزات في رحلةٍ لا تنتهي بالوصول. هي مسيرة التاريخ التي أصبحنا عالةً عليها في عالم اليوم.
السؤال هو لماذا تخلفنا عن ركب الحضارة؟ لماذا فقدنا مكاننا على خارطة العالم؟
&
هنالك قطعاً أسباب عديدة، من بينها هذا التصور السائد في المجتمعات المسلمة، الذي يرى أن ما "ينبغي" أن تكون عليه الحضارة "الحقيقية" المتوازنة روحياً و مادياً، هو ما حققته الحضارة الإسلامية. و أن على الجماعة المسلمة أن تنظر إلى الخلف "لتستعيد" ما تحقق في الماضي. بهذا المعنى، نحن المسلمون في حالة خصام مع مجريات الحضارة الإنسانية ما بعد اللحظة الإسلامية، بحيث صرنا نستهلك المنجز المادي للحضارة المعاصرة و ننبهر به، ثم نرفض الأسس المعنوية التي بني عليها.&
في مواجهة هذا التخلف الحضاري الذي نعانيه، يروج الإسلاميون بأن "الحل" هو في إحياء الحضارة الإسلامية عن طريق بعث التراث، و هذا هو التضليل بعينه. ذلك أن الحضارات الميتة يستحيلُ إحياؤها. ينبغي أن نفرق هنا بين الدين الإسلامي الذي يبقى حياً، كأي دين آخر، ما دام على الأرض بشر يؤمنون به. و بين الحضارة الإسلامية من جهة أخرى، التي مرت بدورة حياة كاملة و أعطت ما لديها و انتهت. هذه الأخيرة لا يمكن أن نستعيدها من جديد لسبب بسيط، هو أنها فقدت حيويتها و مبررات وجودها في الأصل حين تجاوزَ الزمنُ المبادئ و الطروحات الأساسية التي استندت إليها.&
&
نعم يمكن الإستفادة من جوانب محددة في التراث، و هذا مما فعلته أوربا في انطلاقتها. غير أنها في الوقت نفسه هضمت حضارات سابقة و أخرى معاصرة لنهضتها، ورثتها و تفاعلت معها ثم انطلقت إلى أفق مبتكر مضيفةً قيمة جديدة إلى مخزون الخبرة الإنسانية. فأوربا عصر النهضة لم تلتفت إلى الخلف في محاولات يائسة لإحياء حضارة الرومان على سبيل المثال، و لا سعت إلى بعث تراث اليونان بقضه و قضيضه. لكنها أخذت مثلاً بذرة الديمقراطية من الإغريق و طورتها إلى منظومة حياتية شاملة، وظفتها في بناء جديد هو ليس تكراراً لما سبق.&
&
اليوم نحن نفعل النقيض تماماً، نتدثر بماضٍ صار بالياً و ننفخ في الرماد فتعمى عيوننا عن رؤية ما حولنا. نحن بعبارة أخرى عالقون في تراثنا، و من هنا تبرز أهمية تصفية الحساب مع ذلك التراث قبل محاولة الاستفادة من تجاربه. المقصود بتصفية الحساب أن نعيد قراءة التراث بنصوصه و شخوصه و مقولاته في ضوء التاريخ. أن نخلع عنه عباءة التقديس التي تستر ما فيه من عيوب و علل استحالت مع طول العهد بالتستر إلى تشوهاتٍ خطيرة. هذه العملية تضمن أننا سنرى ماضينا لا بعين المُقدِس الناقل للسم مع الدسم، و إنما بعقل الفاحص المدقق الواعي بحركة التاريخ و الذي لا يتردد في طرح ما أصبح رثّاً من تراثه. و لهذا السبب بالذات فإن محاولة بعث التراث من مرقده، التي نادى بها الإسلاميون، دون المرور بمرحلة تصفية الحساب هذه انتهت و ستنتهي دائماً إلى صناعة وحوش تنقض على صانعيها قبل غيرهم.&
&
و بعد، هل من شك في أن المنفذ الوحيد للخلاص من المأزق التاريخي الذي نحن فيه، يأتي بالإنفتاح على المنجز الإنساني الذي استكمل المشوار من حيث توقفنا؟ لا بد أن نتعلم لغة العالم اليوم التي هي لغة المعرفة العلمية لا المسلمات العمياء، و من ثم نخرج بصيغة جديدة تلائم حياة قادمة، و إلا فإن ما يعصف بنا الآن من زوابع ليس سوى مقدمة لما قد يحصل على المدى البعيد.&
التاريخ لا ينتظر أحداً، و لا يتوقف و لا حتى لالتقاط أنفاسه، اما أن تسير معه أو يسير على حساب مستقبلك.
&
* شاعر و كاتب عراقي [email protected]
&