التمعّن في فصل الطبيعة والأنوثة يظهرهما متحدان في نفس العرض، بحكم أنهما متماهيان مع ما يظهرانه من أشكال ظاهرة. الطبيعة وظاهرة الأنوثة توجدان خارج ذواتهما، لأنهما يعملان على تكوين الظاهر الذي يوجدان فيه، وليس من أجل الباطن أو المعنى الذي يهربان منه، مما يدل على أنهما يسعيان وراء تحقيق الانسجام بين أجزاء ما يظهر منهما، لتحقيق البهاء والجمال اللذين وجدا من أجله. فالطبيعة تستمد ماهيتها من ظواهرها الظاهرة فقط، أي أن الطبيعة هي التي تعطي معنى لظاهر الوجود بكثافته و تنوعه و ثرائه المتنوع، وبالتالي الطبيعة وظاهر الوجود شيء واحد. مما يؤكد لنا أن غاية الطبيعة في عمرها، هي تحقيق أكبر عدد من ظاهرياتها، لتحقيق شرط التنوع المتناهي، الذي تكونّت به، والذي تتحدد به من اللاطبيعة أو العدم. فهي لا تسعى نحو التكوين بقدر ما هي هاربة من الفساد الذي يلاحقها. وهذا لأن الطبيعة والأنوثة شيئان خارجا التاريخ. في البدء وجدا مكتملين، مما يجعلانهما لا يعملان لغاية ما، التي حددها بعض الفلاسفة في تحقيق ما هو كامل فيهما- الكمال الطبيعي- خاصة& من قبل& فلاسفة التنوير ليبنتز وشيلر وهردر وكانط وهيجل.
&وإنما الطبيعة تصنع الشعور بالزمن- الحدس الزمني- بتغييرها المستمر لصور ظواهرها لا غير، هذه الدينامكية الفوقية التي تحوزها الطبيعة، هي التي جعلت من الوعي الذي فعلا يسعى نحو التكوين، يدخل معها في جدل من أجل فهم طبيعة هذه التغيرات، وبالتالي الوعي البشري وكأنه يبحث عن اللحظة التي يجبر فيها الطبيعة على الاستقرار والسكون. تغيّر جعل الوعي لا يتعامل مع طبيعة واحدة، وإنما مع طبيعيات متساوية مع تغيرات الطبيعة في تنسيقها لصورها الظاهرة، وهذا بالضبط هو الذي يدفع بالعلم إلى التغذي من نتائج هذه التغيرات، بما يسمى القوانين والأمراض والجيولوجيا والنبات والحيوان.... أي كل ما يدخل في خانة العلوم الطبيعية.
&أما ما يتعلق بالإنسان، فهو يترك للعلوم الإنسانية بما أنه كائن منتج للوعي، وقادر على إيجاد مواضيع نابعة منه، وفي نفس الوقت مستقلة عن ذاته – العلوم الإنسانية- وهذا الذي يدل على أن الطبيعة، موجود لا يسعى إلى تحقيق غاية بعيدة عنه وليست موجودة فيه، بقدر ما يسعى لأن يحافظ على ظهوره المكشوف، بعدما كانت أجزاء التكوين مغروسة في ذات الطبيعة، تنتقل من الباطن إلى الظاهر بفعل ذاتي، وكلما توفرت شروط تحقق ذلك.
إذن الطبيعة وجدت كاملة، وهي بذلك لا تحتمل زيادة ما كان ليس في ذاتها، وهذا الذي يدل على أن عملية ظهور المتجدد لصورها، لقانون طبيعي تحقق به الحركة والتغير، لتتجنب الثبات والسكون اللذين إن تحققا سيزلان طبيعة الطبيعة.
فإذا ما أنزلنا هذا القانون على تاريخ الفكر، الذي تنط وراء فهم الطبيعة منذ القدم، لظهر لنا أن أنصار الوحدة والثبات والسكون ، قد انساقوا وراء وحدة ظاهر الطبيعة التي تقدمها لنا حواسنا اللصيقة بها. أما أنصار التضاد وجدل أشياء الطبيعة، قد كانوا أكثر اهتداء من غيرهم في ظاهريات الطبيعة، حينما وقفوا وراء ظواهرها وعلى شروط تناسقها وتوالدها، مما يؤكد أن الطبيعة لا تحتمل الحجب والتستر، وإنما كلما تنوعت ظاهرياتها وتكثّفت عناصرها، إلا وزاد فصلها الطبيعي الذي تتحدد به، ولكن هل ظاهرياتها هذه هي غاية أم مبدأ؟.
&& إن جملة الظواهر التي تظهر بها الطبيعة، هي مبادئ للطبيعة وليست غاية لها، عكس ما نعتقده من حسنا اليومي. لأنها هي جملة من الظواهر المغروسة في ذات الطبيعة سلفا، وما يتحقق عبر الزمن هو ما كان مغروسا في ذات الطبيعة فقط، وكأن الطبيعة في وجودها، تستند إلى عناصرها المتراصة في أعماقها قبل أن تأخذ أشكالها الظاهرة، وهذا بعدما تأكدنا من أن الطبيعة تأخذ معناها من ما تظهره من ظواهر.
الطبيعة تجري وراء طبيعيتها عبر جدلها الداخلي ، حتى تبسط تناغم عناصرها المتباينة التي تصنع بها مستوياتها الظاهرة المختلفة، باختلاف أساليب إتحاد عناصرها في صناعة جلالها، الذي تحمله ظواهرها العظيمة،& فجلال البحر مثلا يظهر في لا نهائيته، وفي قوة الانسجام الذي يحققه. لأن الجلال ينعكس في قوة انسجام أجزاء الشيء الظاهر، وبه يعمل الشيء الظاهر على تجاوز لحظة جلاله إلى ما بعد الجلال، إلى المطلق. والطبيعة مع بعض ظواهرها قد حققت هذه اللحظة، على حساب بعض ظواهرها الأخرى التي لا زالت دون ذلك، فإذا قارنا بين البحر والبحيرة ، لظهر لنا أن البحيرة دون مستوى البحر، مما يدل على أن ظاهرة البحيرة تبحث عن لحظة تتجاوز فيها ذاتها إلى شيء آخر يختلف عنها في قوة الانسجام، أي بالجلال والقوة، ويشبهها في الدلالة والعرض، وبالضبط لكي تكون بحرا، في المقابل البحر لا يريد أن يعود بحيرة، بقدر ما يسعى لكي يتجاوز بحريته المحدودة إلى بحرية لا محدودة، وهكذا كل ظواهر الطبيعة تعمل على أن تنحوا هذا المنحى في وجودها داخل صور الحركة.
هذا الانحدار نحو الحفاظ على الظهور وعلى ما هو ظاهر، هو نفسه الذي تعتمده ظاهرة الأنوثة في تفجير أنوثتها في الظاهر. فظاهرة الأنوثة الطبيعية، تلتمس من ما هو ظاهر تعيناته، فهي تتشبع من ما تظهره، وجدت لكي تظهر. هذا الذي يجعلها تبحث عن الظهور حتى تجد مكانا لها في عالم الظواهر كالطبيعة تماما، ولا تريد أبدا أن تبقى خلف جدار الوجود، وفي ظل الأشياء وفي الشعاب، فهي والظهور شيء واحد. وكأنها تريد أن تقول للوجود أنا هنا أمامك، هنا بما أظهره من أنوثة، ولا يوجد ما أخبأه، بل ذلك كله وهم، وعليه، الأنوثة لا تعترف بما هو مخبأ فيها أثناء يقظة الوعي، لأنها لم توجد لكي تظهر، هذا الذي يجعلها تنجذب وراء ما يظهر من أجل أن تحافظ على جوهرها الأنثوي. فهي تعي جيدا حدود أنوثتها بما أنها اللحظة النهائية بالنسبة لذاتها، حيث لا تتحرك لكي تكون شيئا مغايرا عن ذاتها الأنثوية، أو أن تكون شيئا مختلفا عن أنوثتها، مما يجعلها تكتفي بقدر أنوثتها، بعدما حققت شرط وجودها الذي يظهر في الأنوثة.
الأنوثة تتجه نحو تحقيق الظهور الكامل، أو بلغة الهندسة، تسعى لكي تحقق شكل الدائرة، بما أنها أكمل أشكال الهندسة وأكثرها ظهورا. صفة كانت كافية في وضع مسافة بين الأنوثة والسر والحجب، وعليه الأنوثة تبقى غائبة من عالم السر، والسر هو الأخر ينتفي في عالم الأنوثة، وهذا نفسه الذي تظهر به الطبيعة في حالة الحفاظ على حالات ظهورها. في لحظة الليل تختفي كل رموز الطبيعة، لأنه يطمس تناسقها وانسجام أجزائها الظاهرة، وعنه تختفي الحياة ويحل السر والخوف. خوف موضوعه الخشية من هيمنة الظلام للأبد، والشعور باستحالة عودة الطبيعة في وضوحها من جديد، فنخاف من اللاعودة ومن هيمنة& السر الذي يسري عبر خيوط الظلام، ولكن سرعان ما تمزق الطبيعة حجاب الظلام حتى تظهر جسمها.
إذا الطبيعة تتحدد في كثافتها الظاهراتية اللصيقة فيما بينها، في سلسلة العلل والغايات، مما يجعل من عناصرها المتناهية، قائمة بين حدي السببية والغائية، داخل سياج العلاقات التي تحدد كيفيات تلك العناصر. والدارج في فقه التحديدات الكيفية لجملة عناصر الطبيعة، يكمن في قوة رسم حدودها الطبيعية التي تملأ المكان. وانطلاقا من تجاذب علاقات الظواهر في أسبابها داخل إمكان الزمان والمكان، تتغير أحوال المظاهر المشكّلة لجسم الطبيعة، الممتد في الزمان بفعل قوة البناء السببي الذي ينمي عناصر الطبيعة في أجالها المتتالية.
إن أقنومات تتالي متغيرات عناصر الطبيعة، تبقى العامل الأساسي في إحداث السيلان الزمن المتدفق، عبر لحظات ترادف الأشياء الطبيعية التي تغذي حركتها الداخلية. فالزمانية الطبيعية تسكن كل تنط محدث للعنصر الطبيعي داخل حدوده، وبالتالي تأخذ ظواهر الطبيعة مجرى خيط الصيرورة، بفعل تراتب أجزائها وترادفها، الذي ينبع من أصغر جزء فيها وينتهي في غلاف الطبيعة العام.
أما ما يتعلق بظاهرة امتداد المكان، الذي يعد أحد أعظم ايهامات الطبيعة الظاهرة، كونه يظهر لإدراكاتنا الحسية ولقوانا العقلية، أنه الكل الذي تنخرط فيه أشياء عناصر الطبيعة ويجمعها، بما فيه نحن. بينما في الحقيق أنه هو الكل المعدوم، الذي ينبسط عليه بساط ظاهر الطبيعة، بما تحققه عناصرها من انسجام بديع. انسجام تنسجه خيوط العلل والغايات، مشكلا بذلك ثوب ظاهر الطبيعة العظيم، الذي هو المكان.
المكان ليس في الأصل إلا جملة تلاحق الأسباب فيما بينها، تلاحق الأجزاء في الكل الشامل. ولكي يتضح صدق هذا الحاق، نسوق حالة فسخ هذه العلاقات وتقطع سلسلة الأسباب، وتجريب اختلال سر التراتب والانسجام. سينجم عنه حتما اختفاء المكان وانعدامه، مثلما يتحلل الميت بين حبيبات التراب، بتحلل العلاقات التي كانت تشدّ أجزاء جسم الميت فيما بينها، الذي كان يحمل على جسمه المكان في عهد ترابط العلاقات.
الظاهر في جواهر الطبيعة، وفي حركتها الذاتية، أنها ليست على نفس مستوى قدر الوجود، فبعضها يتماهى مع شرطية الزيادة و ما يعاكسها و خاصية التضاعف، بمعنى أنه متحرك الماهية في مسافة تغير الأحوال، مما يجعلها تغير أحوالها و خواصها بتحرك درجات مقدار ماهيتها ممكنا. فسحر هذه الخاصية التي تحوزها تلك الظواهر، يجعلها تتعدى حدودها الطبيعية، لتصير شيئا مضادا لطبيعتها الذاتية الأصلانية. ومن بين أمثلة هذا الصنف، مثلا ظاهرة الماء. فالماء& يتماهى مع السيلان والجريان، ولكن إذا اشتدت خواصه في حالة طبيعية معينة، سيتحرك جوهره إلى حالة أشدّ من التي كان عليها في الأصل، كحالة البرودة مثلا. فينتقل الماء من حالة السيلان إلى حالة الجمود المشتقة من خواصه الأصلية. حركة تكون سببا في تغير أشكاله و خواصه.
أما إذا تحرك جوهره في عكس هذا الاتجاه، أي نحو حالة الحرارة، فيخف و يتبخر إلى أن يختفي، ويصير على حال مغاير تماما لأصلانيته الطبيعية. وعليه نستنتج أن هذه الأصناف الطبيعية، أنها تقع بين حركتين تكونان خيط تغيرها وتحركها، حركة الإيجاب التي يتحرك فيها الموجود نحو الوجود، وحركة سلب، يتحرك فيها الموجود نحو عدمه، حركة تنفي وجوده. مما يحدد نهائيا أن هذه الظواهر قابعة بين رأسي الوجود والعدم، مما يجعل ظواهر الطبيعة تتلون بلون الوجود والعدم، والمسافة الموجودة بينهما هي حرف الحياة والنمو عينهما.
بين الوجود والعدم، تتدفق الصيرورة، صيرورة الحياة. فالحياة هي جدل الوجود& والعدم، والفناء هو جدل العدم والوجود، ومن أمثلة هذا الصنف أيضا: الضوء، النمو، الذكورة ... إذن فالصنف الأول هو صنف الوجود والحياة.


البرودة(+) تقابلها الحرارة(-)
الحركة(+) يقابلها السكون(-)
الحياة(+) يقابلها الموت(-)
الذكورة (+) تقابله الأنوثة(-)
الضوء(+) يقابله الظلام(-)

وغيرها من الظواهر، المشكلة لمعادلة الوجود والعدم. أي عناصر الوجود المتحرك الحائزة على التغير الذاتي، في مقابل الموجودات الثابتة الفاقدة للتغير الذاتي.
أما الصنف الثاني، وهو الصنف الذي يحوز على جواهر ساكنة وثابتة، فاقدة للتغير والحركة، بسبب فقدانها لمسافة صيرورة الوجود والعدم، التي يحوزها الصنف الأول، وهو صنف سالب، غير قابل للتغير بتغير الظروف والأحول وبكثافة الشروط، كظاهرة النار مثلا، ماهيتها تستعصي عن التغير والزيادة وعن ما يعاكسها، فالنار تبقى نارا، التي لا تملك التغير الذاتي في جوهرها ، بقدر ما تتأثر بالعوامل الخارجة عنها، فهو صنف منتج للعدم، وأيضا الأنوثة والموت والسواد و غيرها من الظواهر متشابهة الجوهر.
فلطالما هيمنت الفكرة التي مفادها، أن العدم يقبع في مقابل الوجود على عصور الفكر، بمعنى أن العدم هو ما يقابل الوجود، وبالتالي هو خارج الوجود. وإن كان ذلك بينا لحدثت الصيرورة خارج الوجود، ويصير العدم وجودا والوجود عدما. العدم هنا والوجود هناك، ولكن ما هو حاق من هذه المسألة، هو أن العدم يرافق الوجود في وجوده، وبالتالي هو يسكن الوجود.فكل ما هو طبيعي يحوز على خاصيتي الوجود والعدم، فهي تنتجهما معا.
إذا، الطبيعة في تعارض ظواهرها، تحصل على صيرورتها التي تتدفق بشرط الزمان والمكان. الوجود هو الصيرورة التي تنشأ بين جواهر الظواهر المتعارضة، بين ضفاف الوجود والعدم، لأن الوجود يسعى إلى تأكيد وجوده والحفاظ عليه. أما العدم فهو يسكن مفاصل الوجود الثابتة، حتى يسلب الوجود وجوده، إلى أن يتعزز داخله، مثلما يعطي الموت الغلبة للعدم على حساب الوجود.

ملاحظة: للإطلاع أكثر عن تفاصيل الموضوع، أنظر كتابنا: تأملات فلسفية في رسم بعض إشكالات العصر- العنف، التسامح، المعرفة- دار عالم الكتب الحديث، الأردن ص107.