&
الخيار الذي سارت فيه حركة نداء تونس ورئيسها "السابق" الباجي قائد السبسي، وهو التقارب مع حركة النهضة الإخوانية على حساب قوى اليسار، لا يبدو الخيار الأمثل بالنسبة للكثيرين داخل النداء وخارجه. فهو وإن كان سيمكن الحزب الفائز بالمرتبة الأولى في الإستحقاق التشريعي ورئيسه السابق، الذي تربع لتوه على عرش قرطاج، من تشكيل أغلبية نيابية ساحقة بمعية حزبي آفاق تونس والإتحاد الوطني الحر، قد تمكنه من العمل دون معوقات داخل قبة باردو وخارجها، إلا أنه سيفتح الباب على مصراعيه لمعارضة يسارية شرسة قد لا يقوى النداء وحليفته النهضوية "الشرسة" التي يبدو أنه نجح في ترويضه وكسب ودها، على تحمل تبعاتها.
فاليسار التونسي، وإن كان لا يحوز على شعبية واسعة مقارنة مع حركة النهضة الإخوانية، وغير قادر على استقطاب فئة من الجماهير من ذوي الزاد المعرفي المحدود التي يدغدغ مشاعرها عادة الخطاب المتاجر بالدين، وهي هامة من حيث العدد ومنتشرة في كامل أنحاء البلاد، إلا أن لديه القدرة على جذب شريحة أخرى من التونسيين ممن اصطلح على تسميتهم بـ "النخبة" ونعتهم بعض قياديو حركة النهضة وأنصارها بخيلاء بـ"جماعة الصفر فاصل" بالنظر إلى نتائجهم في انتخابات 2011، وذلك في لحظة فارقة اعتقد فيها النهضويون أنهم نالوا بيعة أبدية لا رجعة فيها وأن الأمور استتبت لهم إلى أبد الآبدين.&
فلليسار التونسي، وعلى سبيل المثال امتدادات واسعة في صفوف& المنظمة الشغيلة (الإتحاد العام التونسي للشغل) وفي الإتحاد العام لطلبة تونس، وداخل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ومنظمات حقوقية أخرى فاعلة في المجتمع المدني على غرار منظمة النساء الديمقراطيات وغيرها. وحزب المسار الإجتماعي، الوريث الشرعي للحزب الشيوعي التونسي ولحركة التجديد من بعده، استطاع أن يستقطب عددا معتبرا من أساتذة التعليم العالي وكثيرا من أهل الفن والثقافة ناهيك عن إعلاميين وإطارات وطنية من مختلف الميادين.
وقد أثبتت التجربة أن هذه الفئة القليلة، التي استهزئ بها في وقت ما من قبل الفئة الكثيرة المنبثقة عن انتخابات 23 أكتوبر 2011، ونعتت بـ"المنهزمون" و "جرحى الإنتخابات" وغيرها من النعوت الصبيانية التي اعتمدتها الفئة الكثيرة، قد تمكنت من التصدي للإنحرافات وصوبت المسار الإنتقالي، ولولا جهودها في المنابر الإعلامية وعلى الميدان، ولولا دماء شهدائها لكان المجلس التأسيسي يواصل مهامه دون أجل محدد ويشهد صراعات بين حزبي النهضة والمؤتمر حول صلاحيات كل من رئيسي الجمهورية والحكومة دون أن يتم الإتفاق على خارطة طريق تحدد مواعيد الإنتخابات وتنهي المرحلة الإنتقالية.
فالعبرة ليست بعدد الأنصار لدى هذا التيار السياسي أو ذاك بل بمدى قدرة هؤلاء على التأثير في الرأي العام وصناعته وإدارته. واليسار التونسي قادر من خلال الإعلام والأدب والسينما والمسرح وغيرها من الفنون على القيام بهذا الدور الذي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يضطلع به من لم يحدد موقفه بعد من الفن واقتحم لتوه عالم الإعلام فأوجد نسخا بديلة مشوهة ورديئة.
لذلك يرى البعض أن من بين الخيارات التي كانت متاحة أمام رئيس الجمهورية، وسعيا منه لدعم استقرار البلاد خلال الفترة القادمة، العمل بشتى السبل على استقطاب اليسار نظرا لقوة تأثيره المشار إليها، وتجنب الوقوع في فخ الكثرة العددية لنواب النهضة وجماهيرها خاصة وأن التجربة أثبتت في أكثر من بلد أن الوزن السياسي لا يقاس فقط بما تفرزه صناديق الإقتراع أو بما يمكن حشده في الشارع، والأمثلة عديدة في هذا المجال قديما وحديثا.
فوجود اليسار في الحكم قد يساهم، بحسب البعض، في تسهيل التواصل بين المنظمة الشغيلة والحكومة خاصة عندما يتعلق الأمر بالمفاوضات الإجتماعية، وقد يدفع أكثر باتجاه حصول الهدنة الإجتماعية التي ستعود بالفائدة على الجميع خاصة بعد أن أضرت كثرة الإضرابات في السنوات الأربع الماضية بالإقتصاد الوطني وساهمت إلى حد بعيد في عرقلة عمل الحكومات المتعاقبة. كما أن وجوده كان سيحقق التوازن ويحد من انحراف الحكم الجديد نحو اليمين بشقيه الليبرالي (النداء، الإتحاد الوطني الحر، آفاق) والديني (حركة النهضة)، خاصة إذا تعلق الأمر بالإستجابة لما سمي "الإصلاحات" التي طالب بها صندوق النقد الدولي.
لقد كان على مؤسس حركة نداء تونس رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي الذي أنشأ تلك الخلطة الحزبية العجيبة التي ضمت دساترة ونقابيين وليبراليين ومستقلين وأسقطت عليها لاحقا "نظرية الروافد"، أن يجد توليفة ما تجمع بين المتناقضات أي الجبهة الشعبية اليسارية والقومية من جهة وحركة النهضة ذات التوجهات الإخوانية من جهة أخرى. فيضمن بذلك أكثرية نيابية مريحة داخل قبة البرلمان دون أن يفقد دعم النخبة إعلاميا ونقابيا وداخل منظمات المجتمع المدني الفاعلة وفي مختلف المنابر الثقافية والفنية وغيرها.
&